إلى التساهل في الرواية لتكميل ما به المفاخرة؛ لأن الولع بذلك يصير هوَّى ومحبةً.
فكان مالك رحمه الله شديد النقد في هذه الأنواع كلها ونافذ البصر بسد مواقع الخلل والتهمة فيها.
فأما نحو السبب الأول وهو الكذب فقد بالغ في نقد الرجال من ثلاث جهات: جهة العدالة، وجهة أصالة الرأي وتمييز المرويات، وجهة اتباع السنة، قال سفيان ابن عيينة: رحم الله مالكًا ما كان أشد انتقاده للرجال والعلماء، وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا يقوم مقام مالك في ذلك، وقال أحمد بن صالح: ما أعلم مالكًا روى عن أحد فيه شيء، والمحدثون وغن قبلوا رواية أهل البدع في الاعتقادات؛ إذ كانوا يحرَّمون الكذب إلا أن مالكًا اشترط في ذلك أن لا يكون ذلك الراوي داعية لمذهبه؛ لأن ذلك يوجب له تهمة.
وأما نحو السببين الثاني والثالث وهما النسيان والغلط فقد اشترط مالك رحمه الله في الرواية أن يكون الراوي من أهل العلم والمعرفة، ابن وهب قال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء.
وشدد في نقل الحديث بالمعنى، فقال: لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى، نعم رخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.
وأما نحو السببين الرابع والخامس وهما الترويج والتفاخر فإن مالكًا رحمه الله أخذ الحيطة لذلك بأمرين: بتزييف ما كانوا يصنعون، والحذر مما يودعون، ففي المقام الأول لم يهتم بشيء من التصنع والتحسين في طرق الرواية، فكان يكرر ما يقوله لهم أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر:«إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم»، وقيل له: إن فلانًا يحدثنا بالغريب، فقال: مالك من الغريب نفر، وقال له بعضهم: ليس في كتابك غريب، فقال: سررتني.
[الغرض من تأليف الموطأ]
عمد مالك إلى تأليف كتابه «الموطأ» ليجمع فيه ما صح عنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة والتابعين وما عليه عمل أهل المدينة، ويودع فيه ما أخذه من مروياته من أحكام شرعية، وقد اشتهر بين أكثر العلماء أنه ألفه بطلب من