أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك دينًا عامًا لجميع البشر، وباقيًا على امتداد الدهر، إرادة دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواتر أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما لا يترك مجالاً للشك في نفس المتأمل، فلا جرم قدر الله للإسلام التأييد والتجديد اللذين لا يكون الدوام في الموجودات إلا بهما، فكما جعل في كل حي وسائل الدفاع عن كيانه، وهو ضرب من التأييد، وجعل له وسائل لإخلاف ما يضمحل من قوته بالتغذية ونحوها، وهو التجديد، كذلك جعل للإسلام حين أراد حياته، فالتأييد بعلمائه يذودون عنه ما يطرقه من التعاليم الغريبة عن مقاصده حتى تبقى مقاصده سالمة واضحة، ومحجته بيضاء للسالكين لائحة، والتجديد بما نفحه من قائمين بدعوته، ناهضين بحجته، صياقل يجلون صفائحه البواتر، وزعماء بسري الأسحار وتأويب البواكر.
إن هذه الشريعة إرشاد صرف، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلقًا بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفًا وانحرافًا إذا امتد الميدان.
من أجل ذلك ضمن الله لهذا الدين حفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر: ٩]، وإن لحفظه ثلاثة مقامات:
أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال، وهو مقام العمل بآية:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: ٥٩].
وثانيها: مقام تجديد ما رث من أصول الدعوة، وهو مقام العمل بآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)} [محمد: ٧]، وكلا المقامين الأولين لا يفقهه إلا الفقيه في الدين، وهو المجتهد العارف بالطرق الموصلة إلى الغايات المقصودة من التشريع الإسلامي، بحيث تصير معرفة الشريعة وسائلها ومقاصدها ملكة له، أي: علمًا راسخًا في نفسه، لا تشذ عنه مراعاته والإصابة فيه عند جولان فكره في أمور التشريع.