السطر القويم فتكون رهبته من القضاء بعد ولايته أشد من نفوره عنه من قبل، فإن الولاية ربما خيبت أماني وبدَّلت أخلاقًا، قد تغر بوارق البرق فيظن سحابه ماطرًا وما هو إلا جهام لا ينشئ إلا غمًّا للكون وساكنيه، وحرارة يوقدها برقه الخلب فيه:
خلق أفادته الولاية أنها ... خلق يغير أهله ويبدل
أراد الله تعالى عمران هذا الكون ففطر البشر على الدأب نحو استحصال منافعه، وإجابة طلبات نفسه تلك الفطرة التي هي أصل التسابق لاقتضاء ما يستتب به العمران، ولكن هاته الفطرة كانت بحكم الضرورة ميالة إلى استلاب المنافع من أيدي أصحابها وروم انضمامها إلى المصالح الذاتية إحساسًا يجده الحي في نفسه ويسمعه يوحي إليه في باطنه أن لو استطعت أن تملك الدنيا فافعل بما أمكن أن يسعى المرء في نيل ما يحب، ولكنه سيجد المدافع عن أخذ ما بيده فيضطر إلى الفكر في استخراج ما يطلب من غير يد مالكه بأن يسعى إليه من جهة لم يسبق عليها، تلك جهة الإحياء والاختراع التي لا ينطفئ نبراسها من الأمم ولكنه يَنُوسُ بمقدار الحاجة الداعية كما قيل:«الحاجة أم الاختراع» ولن النفوس من قبل أميل إلى الدعة والراحة وأعشق إلى الشيء المشاهد الحاصل؛ فلذلك يكون ميلها إلى استلاب المملوكات أسبق من تفكرها في ابتداع ما تشتهيه.
هكذا كان يجري هذا بين الأفراد في خاصتها والقوم في قراها والأمم في وحدتها والذي يظهره لكم في مظهر واضح اختلاف الملوك والفاتحين في توسيع الممالك وطموح كل أمة إلى تعميرها الأرض وفناء ما سواها بالوجه الذي تراه، فكان التدافع بين أفراد النوع لذلك طبيعيًّا ناشئًا عن تحرك القوتين الشاهية والغاضبة عند التزاحم في مزدحم الحياة، وكذلك تكون المصالح غالبًا غير سالمة من أضرار تعقبها هي منها بمنزلة ما تشتمل عليه الثمرة الطيبة من البذور والحلفايات، فللتشريع في هذا أن ينظر بعد اقتضاء المصلحة العمرانية إلى ما تخلفه فيكفي الناس مضرته بوجه تسلم به تلك المصلحة من الأضرار، هذا الوجه هو حماية الحقوق، أي: رد يد الظالم عن تناول ما للغير بدون رضى، وهو أمر حسن توافق عليه الفطرة ما دامت غير مستهواة لهوى غالب في جزئية خاصة، ولا تستقل أمة عن الحاجة إليه مهما بلغت من الرقي، فإن الأمم المنحطَّة لا يمكنها الوصول إلى إيفاء الحقوق أهلها، فضرورتها إلى القضاء ليست بالأمر الخفي، وأما الراقية فإنها تتألف من جماعات فاضلة ومن أضدادها، فلا غنى بها عن تأسيس قواعد العدل لإصلاح الدهماء، ولإقناع الحكماء والعلماء؛