الحق فيقع في الباطل كشأن كل من لم يكن متحققًا من شيء، فسلمان لا يخشى على أبي الدرداء الجور، ولا يحذره منه؛ لأنه آمن عليه منه لعدالته؛ إذ هو من أصحاب رسول الله وهم عدول، وإنما خشي عليه أن لا يتأمل جيد التأمل من بعض القضايا مبالغة في النصح له؛ وذلك لأن القضاء بغير الحق جهلًا يساوي قصد الجور في عدم الوصول إلى الحق.
وفي حديث النسائي عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس فهو في النار».
وهذا يدل على اشتراط العلم في القاضي، والعلم مهما أطلق في لسان أهل الأصول والمتقدمين فإنما يراد به أصدق معانيه هو الفكر والنظر فلا يصح عند الأئمة ولاية قاض عامي أو مقلد لا يستطيع النظر في مدارك الأحكام أو في مسائل الخلاف، قال عبد الوهاب في التلقين:«ولا يستقضَى إلا فقيه من أهل الاجتهاد لا عامي مقلد»، وشرحه المازري فقال:«وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب، لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، ولكن يجب أن يكون عالمًا عدلًا، قال ابن حبيب: فإن لم يكن عالم فعاقل ورع، فإنه بالعقل يقف وبالورع يسأل، فهذا قول ابن حبيب سهل في ولاية القضاء المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على قاض نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدعو إلى ولاية مقلد ولا خلاف أن ولاية النظار أجدر من ولاية المقلد، وإنما الخلاف هل تصح ولاية المقلد وتنفيذ أحكامه أم لا؟ فيمنع من ذلك الشافعي وهو الذي يحكيه أئمة مذهبنا عن المذهب، ويجيز ذلك أبو حنيفة ويأمره بمشاورة النظار، واحتج أصحابنا وأصحاب الشافعي بقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء: ١٠٥] وبقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: ٥٩]، أما عصرنا هذا ففي إقليم المغرب لا يوجد مفتٍ نظار، فالمنع من ولاية المقلد تعطيل للأحكام ولكن تختلف أحوال المقلدين، ثم إذا كان النظر شرطًا فهو يتضمن المنع من اشتراط الإمام على رجل نظار أن لا يحكم إلا بمذهب أحد الأئمة؛ لأن الرجل إذا أداه اجتهاده إلى الصواب وأمر أن يقضي بخلاف ما عنده فقد صار مأمورًا بمخالفة الحق في اعتقاده، فإذا انعقدت الولاية على هذا الوجه فإن هذا عقد لا يجوز وينبغي فسخه ورده، وذهب بعض الناس إلى أن القضاء على هذه الصفة لا يفسخ بل يمضي ويبطل الشرط؛ لأن الفساد في الشرط لا في التولية» ا. هـ.