للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطَّلَبِ الْجَازِم يَكُونُ دَالًّا عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّرْكِ.

حُجَّةُ الْمُخَالِفِ: أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيءِ حَال غَفْلَتِهِ عَنْ ضِد الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيءِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ نَاهِيًا عَنْهُ.

===

القائل: "تَحَرَّكْ" ليس هو عَينَ قَوْلِهِ لا تَسْكُنْ، فليس الخلاف إلّا أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَا.

واحْتَجَّ القاضي: على أنه عَينُهُ باشتمالِ القَضِيَّتَينِ على الطَّلَبِ، والطَّلَبُ لا يَتَحَقَّقُ بدون المَطْلُوبِ، فمطلوب "لا تسكن": إما أن يكون سَلْبَ الحركة، ولا يَصِحُّ التكليف به؛ لأَنَّ العَدَمَ غَيرُ مَقْدُورِ الحَرَكَةِ، أو السكون؛ لانْحِصَارِ الأَمْرِ في ذلك ضرورةً، ولا يَتَعَلَّقُ بفعل السُّكُونِ؛ لأن الأمر بالسكون يُنَاقِضُ الأَمْرَ بالحركة.

وقوله: "لا تَسْكُنْ" لا يُنَاقِضُ الأَمْرَ بالحركة، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُهُ نَفْسَ الحَرَكَةِ، ونظره بالحركة؛ فإنها مَعْنى واحد.

وحَقِيقَتُهَا: تفريغُ حَيِّزٍ، وشَغْلُ غَيرِهِ، والكَوْنُ واحد [و] هو تفريغ وشغل بالنسبة إلى مَحَلَّينِ، فلم يلزمْ من تَعَدُّدِهِما بالإضافة تعدُّدُ المَعْنَى الحَاصِلِ؛ كذلك تَعَدُّدُ الأمرِ والنهي.

وَالاعْتِرَاضُ عليه: أَن الفِعْلَ والتَّرْكَ متقابلانِ، والتحريكَ والتسكينَ كذلك، ، وَشَرْطُ تَحَقُّقِ أَحدِ المتقابلين سَلْبُ ما يقابله، فلو كان التَّرْكُ عَينَ الفِعْلِ، لكان الشيءُ شَرْطًا في نفسه، فهو إذن غيرُهُ، لا عَينُهُ.

وتنظيرُهُ بالحَرَكَةِ أنها مَعْنى واحد هو تَفْرِيغٌ وشَغْلٌ- حُجَّةٌ عليه؛ فإنه وإن كان مَعْنى وَاحِدًا فله اعْتِبَارَانِ في العَقْلِ يختلفان باخْتِلافِ مَقَاصِدِ الآمرين، فقد يكون مَقْصُودُ الطالب الحصول في الحيز الثاني؛ فيكون الطلب المتوجه إليه أمرًا، وقد يكون مقصوده إخلاء الحيز الأول؛ فيكون الطلب المتوجه إليه نَهْيًا، فاخْتَلَفَ الطَّلَبُ باختلاف المتعلق؛ وهو قَوْلُ القاضي في الجَدِيدِ.

وقَرَّرَهُ: بأنه لو لم يَكُنْ مَنْهِيًّا عنه، لَصَحَّ الأمرُ به، والأَمر به جَمْعٌ بين النقيضين.

والاعْتِرَاضُ عليه: بِأَنَّ اللُّزُومَ في الوجود مُسَلَّمٌ، فَلِمَ قلتَ: إنَّه يلزم مِنْ تَلازُمِهِمَا في الوجود تلازُمُهُمَا في الطلب؟ فرجع القَوْلُ فيه إلى البَحْثِ في أَنَّ ما لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلّا به هل هو واجب أم لا؟

وقد بَيَّنَّا في المَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ أَنه غَيرُ لازِمٍ، وصاحبُ الكتاب بَنَى دليلَه على أَنَّ ما كان من ضَرُورَاتِ الشيء، فإنه وَاجِبٌ.

وقَوْلُ القاضي: "إنه لو لم يَكُنْ مَنْهِيًّا عنه، لَصَحَّ الأَمْرُ به"- غيرُ لازم؛ فإنه إذا انْتَفَى المَعْنَى، جاز وجودُ خلافِهِ، بشرط أَلّا يُضَادَّهُ معنى في المَحَلِّ، فإذا انتفى النهي جاز ثُبُوتُ خلاف لا يُضَادُّ الأمرَ؛ كَإِطْلاقِ الفِعْلِ مثلًا للأمر به، فإنه يضادُّ الأمرَ بضده الثابتِ في المَحَلِّ.

قوله: "حُجَّةُ المُخَالِفِ أَن الإنسان قد يَأْمُرُ بالشيء حَال غَفْلَتِهِ عن ضِدِّ المأمور به، والغافل عن الشيء يَمْتَنِعُ كونه نَاهيًا عنه"- هذا مُسْتَنَدُ مَنْ يَدَّعِي المُفَارَقَةَ؛ وهو اختيار الإمام، والغزالي.

<<  <  ج: ص:  >  >>