وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَالرَّاجِحُ وَاجِبٌ، والْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعٌ، فَإِنْ وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِتَحْصِيلِ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ -كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ وَقَعَ الأَمْرُ بِتَحْصِيلِ المَرْجُوحِ- كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْمُمْتَنِعِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ.
===
وأجاب الأصحاب بوجهين:
أحدهما: التزامه والتزامهم مِثْلَهُ على قواعدهم؛ فإن اختلافَ المعلوم مُكَلَّفٌ به، وفعله مُتَوَقِّفٌ على خَلْقِ داعٍ من الله تعالى، دفعًا للتسلسل، فقد كَلَّفَهُ، ولم يَخْلُقْهُ له، وطَلَبَ الفعلَ لاستصلاح مَنْ عَلِمَ أنه لا ينصلح، ، إلى غيرِ ذلك مما يقررونه في محله.
الثاني: قالوا: إنْ أثبتنا عمومَ القدرة والإرادة لله تعالى، وقلنا: إِن كُلَّ حادث باختراعه ومشيئته، إلا أَنَّ للعباد في بعض الأفعال كَسْبًا؛ على ما نطق به القرآن المجيد: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: ٢٨٦].
والكسب فعل فاعل بمعين فلا نقول بالاستقلال ولا بالجبر فإنا نفرق بالضرورة بين حركة المرتعش والمسحور والمختار، والتكليف إنما يتعلق بالمكسوب.
وأمَّا تَعَلُّقُها بأصول الفقه: فلأنَّ أُصولَ الفقه عبارة عن: العِلْمِ بِأَدِلَّةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ حَيثُ الإِجْمَال.
وذلك يستدعي البحثَ في طرفينِ: طرف الأَدِلَّةِ، وطرف الحُكْم، والبحثُ في طرف الحكم يستدعي البحثَ في تعيين الحاكم، وهو الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ} [يوسف: ٤٠].
والمحكومِ عليه: وهو البالغ العاقل، الفاهِمُ للخطاب.
والمحكومِ فيه: وهو فعل المُكَلَّفِ، وله شروط منها: أنْ يكونَ مقدورًا لمنْ كُلِّفَ به، فَمِنْ ثَمَّ استدعي البحثَ في تكليف ما لا يُطَاقُ، وقدْ اتَّفَقَ الجميعُ أن التكليفَ بخلاف المعلومِ واقِعٌ، وقد احتج به على جواز التكليف بما لا يُطاقُ ووقوعِهِ.
قالوا: لأنه إذا كُلِّفَ بفعل، مع علمه تعالى أنه لا يوقعه -فوقوعُهُ مُحَالٌ؛ لأَنَّه لو وقع لانقلب العلمُ جهلًا.
قالوا: ولا فرقَ بين المستحيلِ لغيرِهِ، والمستحيلِ لنفسه.
قالوا: ولأن الله تعالى أخبر عن قوم كَلَّفَهُم بالإيمان أنهم لا يؤمنون، فلو وقع لَلَزِمَ الخُلْفُ في كلامه؛ وهو محال.
قالوا: ولأنَّ ما عَلِمَ اللهُ تعالى انتفاءَ وقوعِهِ، فهو لا يريدُهُ، ووقوعُ خلافِ المُرَادِ مُحَالٌ.
وأجاب المانعون: بأنَّ تَعَلُّقَ العلم بعدمِ وقوعِ الفعل لا يُخرِجُهُ عن الإمكانِ؛ فإنَّ العلمَ يَتَعَلَّقُ بالشيءِ، ولا يُؤَثِّرُ فيه؛ بدليل صِحَّة تَعَلُّقِهِ بِالواجب والمستحيل، وإذا لم يُؤَثِّرْ، لم يخرجْ المُمْكِن عن إمكانه؛ ولذلك كان مقدورًا لله تعالى، وإلَّا لم تَعُمَّ صفاتُهُ تعالى.
قالوا: والشرط في التكليفِ إمكانُ الفعل عادةً بالنسبة لِمَنْ كُلِّفَ به، فَمَنْ كُلِّفَ بالطيران