للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قَالُوا: "إِنَّهُ -حَال الاسْتِوَاءِ- مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ التَّرْجِيحِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي":

فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَنَّهُ فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي، أَوْ المُرَادُ مِنْهُ: أَنَّهُ عِنْدَ مَجِيءِ الزَّمَنِ الثَّانِي يَصِيرُ مَأْمُورًا بِتَحْصِيل الْفِعْلِ فِيهِ:

===

فقد كُلِّفَ بما لا طاقَةَ له به، بخلاف تكليفِه بالمشي.

ثم ما لا يطاق ينقسم إلى خمسة أقسام:

الأول: المستحيل في نفسه؛ كقلبِ الأجناسِ، والكونِ في مَحَلَّينِ في زمانٍ واحدٍ، وهذا لا تَتَعَلَّقُ به قُدْرَةٌ ألْبَتَّةَ، لا قديمةٌ، ولا حادِثَةٌ.

الثاني: المستحيل بالنسبة إلى العبدِ خَاصَّةً؛ كخلق الأجسامِ، وبعضِ الأعراضِ كالطُّعُومِ، والروائح.

الثالث: ما لا تجري العادَةُ بِخَلْقِ القدرة على مِثْلِهِ، وإنْ جاز خَلْقُهَا؛ كالمشي على الماءِ والطَّيَرَانِ في الهواءِ.

الرابع: ما لا قدرةَ للعبد عليه حَال التكليفِ، وله قُدْرَةٌ عليه حال الامتثالِ.

الخامس: ما هُوَ من جِنْسٍ مقدورٍ للبشر، لكنْ في الحمل عليه مَشَقَّةٌ عظيمة؛ كالأمر في التوبة بقتلِ النفس، وثُبُوتِ الواحد للعشرةِ، وعليه يُحْمَلُ قولُهُ تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦] إذْ لا معنى للابتهالِ في دفعِ ما لا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ.

والخامِسُ واقع بالاتفاقِ.

والرابع أيضًا واقعٌ على أصل أَبِي الحَسَنِ، وهو لا يَعُدُّهُ مِن تكليف ما لا يُطاقُ؛ لأنه لا يَشتَرِطُ التمكُّنَ إلَّا على حالِ الوقوع، فلا يَضُرُّ عَدَمُهُ قبل ذلك.

والثلاثة الباقية جَوَّزها أبو الحسن، والتردُّدُ المنقولُ عنه إِنَّما هو في وقوعها.

وقد احتج صاحب الكتابِ على وقوعه ها هنا بوجهين:

الأَوَّلُ: أَنَّ الأمر: إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ حَال استواءِ الدَّاعِي، أَوْ تَرَجُّحِهِ، ووقوعُ الفعل مع الاستواءِ مُحَالٌ، ومع الترجيح للفعل واجب، والتَّرْكُ مُمْتَنِعٌ والتكليفُ به تكليفٌ بالواجبِ، أو المستحيلِ.

وَرُدَّ: بأن تَعَلُّقَ الدَّاعِي لا يُصَيِّرُهُ واجبًا، فإنَّهُ واقع باختياره وقُدْرَتِهِ، ، ولُزُومُ وقوعِ الجائِزِ لِتَحَقُّقِ سَبَبِهِ لا يُصَيِّرُهُ واجبًا، وإلَّا لكان البارِي تعالى موجبًا بالذَّاتِ لا فاعلًا بالاختيار؛ فإنَّ ما تَعَلَّقَ عِلْمُهُ وإرادَتُهُ وقدرتُهُ بوقوعه فهو لازم الوقوعِ؛ فعدمُه واجبٌ بالتفسير الذي ذكره.

قوله في الاعتراض: "فإن قالوا إنَّهُ حَال الاستواءِ مأْمُورٌ بتحصيلِ الترجيح في الزمان الثاني.

فنقول في الجواب: إمَّا أَنْ يكونَ المرادُ منه أنه في الزَّمَنِ الأَوَّلِ مأمورٌ بتحصيلِ الفعل فيه، أو المُرَادُ منه أنه عند مَجِيءِ الزمن الثَّاني يصيرُ مأمورًا بتحصيل الفعل فيه، فَالأَوَّلُ تكليفُ ما لا

<<  <  ج: ص:  >  >>