للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالأَوَّلُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؛ لأَنَّ تَحْصِيلَ الفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الزَّمَنِ الثَّانِي، وَحُصُولُ الزَّمَنِ الثَّانِي -عِنْدَ وُجُودِ الزَّمَنِ الأَوَّلِ- مُحَالٌ؛ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.

===

يُطَاقُ -أي: في الزمن الثاني- لأنه تحصيلٌ للفعل في الزمن الثاني، وهو موقوف على حصولِ الزمن الثاني، وحصولُ الزمنِ الثَّانِي عند وُجُود الزمن الأَوَّلِ مُحَالٌ".

والاعتراض عليه: أَنْ يقال: المُرَادُ منه: أنه في الزمن الأَوَّلِ مأمورٌ بإِيقاع الفعل في الزمن الثاني، والموقوفُ على وُجُودِ الزمن الثَّاني وقوعُ المأمورِ به، لا الأَمْرُ؛ فإنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، ولم يُؤْمَرْ بإِيقاعِهِ في الزمن الأوَّلِ بشرط حُصُولِ الزمن الثاني؛ فإنه مُحَالٌ.

والقسم الثاني: ظاهر البُطْلَانِ؛ فلا نقولُ به.

قوله: "الوجه الثاني: أَنَّ الأمر بمعرفةِ اللهِ تعالى حَاصِلٌ" يعني بالإجماع على الجملة.

قوله: "فهذا الأمر: إمَّا أنْ يَتَوَجَّهَ على المُكَلَّفِ حَال كونِهِ عارفًا باللهِ تعالى، فيكون أمرًا بتحصيلِ حاصِلٌ" يعني: وهو من التكليف بالمحال.

قوله: "أو قبل كونه عارفًا بربه وقبل كونه عارفًا بربه لا يكون عارفًا بأمر ربه" يعني: فقد كُلِّف بالمشروط بدونِ شَرْطِهِ.

والجواب عنه: اختيار الثاني، ولا يلزم منه التكليفُ بالمشروط مع عدم الشَّرْطِ؛ فإنَّ شرطَ التكليفِ به تَصَوُّرُ أَنَّ له رَبًّا يَأْمُرُهُ، لا عِلْمُهُ بأنَّ له ربًّا يأمره، والتَّصَوُّرُ حاصِلٌ بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لَكَ رَبًّا يأمُرُكَ، فَإنْ شَكَرْتَهُ أَثَابَكَ، وَإِنْ كَفَرْتَهُ عَاقَبَكَ".

وقدِ احتجَّ الإِمامُ والغزاليُّ على امتناعِ التكليف بما لا يُطَاقُ: بأنَّ التكليفَ طَلَبٌ واستدعاءٌ، والطَّلَبُ يستدعي مطلوبًا، وشَرْطُهُ أَنْ يكونَ معلومًا للطالبِ، والمستحيلُ وُقُوعُهُ غَيرُ معلومِ الوقوع؛ فلا يكونُ مطلوبًا؛ لاستحالةِ تَحَقُّقِ المشروطِ بدونِ الشرط.

وَاعْتُرِضَ عليه: بأنَّ المستحيلَ محكومٌ عليه بالاستحالةِ، والحُكْمُ على الشيءِ موقوفٌ على تَصَوُّرِهِ، فالمستحيلُ مُتَصَوَّرٌ.

وَأُجِيبَ: بأنه محكومٌ عليه بالنفي، فَيَتَوقَّفُ على تَصَوُّرِهِ منفيًّا. أمَّا الحُكْمُ عليه بالطلب، فيتوقفُ على تَصَوُّرِهِ مثبتًا تَصَوُّرَ الشيءِ على خلافِ ما هو به، ولا يَقَعُ الأمر به إلا من جاهلٍ أو مَقْدُورٍ، والجَهْلُ على الله تعالى مُحَالٌ؛ لأَنَّهُ نَقْصٌ، والتقديرُ لا يكونُ إلَّا حادثًا، ولا يَتَّصِفُ سبحانه بحادِثٍ.

ويمكن أن يُقَال: الحُكْمُ عليه بأنه لا يُتَصَوَّرُ طَلَبُهُ يَسْتَدْعِي تَصَوُّرَهُ، فهو متناقض، والحَقُّ أَنَّ قوله في الفَرْقِ: إنَّ الحكم عليه بالنفي يَتَوَقَّفُ على تَصَوُّرِهِ مَنْفِيًّا، والحُكْمَ عليه بالطَّلَبِ يتوقف على تصوره مُثْبَتًا -مُغَالطَةٌ؛ فإنَّ فيه أَخْذَ الحكمِ في المَحْكُومِ عليه، وجَعْلَ التَّصَوُّرِ تصديقًا.

ومعنى الحكم على الشيء بالاستحالة: أَنَّ بعضَ التَصَوُّرَاتِ الثابتةِ في الذِّهْنِ إِذا عُرِضَتْ على العقل، قَضَى عليها بأَنَّها لا تَقْبَلُ الوجودَ الخارِجِيَّ بوجه ما، فإِذا فُرِضَ جَوْهَرٌ ما في

<<  <  ج: ص:  >  >>