الْقَطْعِيُّ: إِمَّا الْعَقْلُ، أَو النَّقْلُ:
والأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ لَا مَجَال لِلْعَقْلِ فِي ذلِكَ.
وَالثَّانِي -أَيضًا- بَاطِلٌ؛ لأَنَّ النَّقْلَ لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إِلَّا بِشَرْطَينِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الأَلْفَاظُ دَالَّةً عَلَى هذَا الْمَعْنَى دَلالةً قَطْعِيَّةً، لَا يَبْقَى لِلاحْتِمَالِ فِيهَا مَجَالٌ.
وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هذَا الدَّلِيلِ، لَعَرَفَهُ الْكُلُّ، وَلَوْ كَانَ كَذلِكَ، لارْتَفَعَ الْخِلافُ؛ وَحَيثُ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَذلِكَ، بَطَلَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الإِجْمَاعِ حُجَّةً.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الله تَعَالى نَهَى كُلَّ الأُمَّةِ عن القَوْلِ الْبَاطِلِ والفِعْل الْبَاطِلِ؛ فَقَال - جلَّ ذِكْرُه -: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٦٩] وَقَال تَعَالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] والنَّهْيُ عن الشَّيء لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ جَوَازِ الإتْيَانِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وذَلِك يَدُلُّ عَلَى جَوازِ إِتْيَانِ مَجْمُوعِ الأُمَّةِ بِالبَاطِلِ.
الرَّابعُ: أَنَّهُ لَمْ يَجْر ذِكْرُ الإِجْمَاعِ فِي خَبَرِ مُعَاذٍ - رَضِيَ الله عَنْهُ - وَلَوْ كَانَ حُجَّةً، لَمَا جَازَ الإِخْلالُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَيهِ؛ لأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى ذلِكَ الحُكْمِ الْمُعَيَّنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ دَلَّهُمْ عَلَى صِحَّةِ ذلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ لأَمارَةٍ سَاقَتْهُمْ إِليهِ، أَوْ لَا لِذلِكَ وَلَا لِهَذَا:
===
قوله: "الرابع: إنه لم يَجرِ ذِكْرُ الإِجْمَاعِ في خَبَرِ مُعَاذٍ، ولو كان حُجَّةً لما جَازَ الإِخْلالُ بذكره عند مَسَاسِ الحاجة إليه لأَنَّ تَأْخِيرَ البَيَانِ عن وَقْتِ الحَاجَةِ لا يَجُوزُ": يعني بالاتفاق؛ إلَّا عند من جَوَّزَ التَّكْلِيفَ بالمُحَالِ.
قوله: "الخامس: أَنَّ إِجْمَاعَ النَّاسِ على ذلِكَ الحُكْمِ المعين، إما لدَلِيلٍ، أو لأَمَارَةٍ، أو لا لِوَاحِدٍ منهما، والأول بَاطِلٌ؛ لأنه لو كان لاشتهر؛ لأنَّ الوَاقِعَةَ العَظِيمَةَ تَتوَافَرُ الدَّوَاعي على نَقْلِ دليلها، ولو نقل لاسْتُغْنِيَ به عن الإِجْمَاعِ، فلا يَبْقَى في التَّمَسُّكِ بالإجماع فَائِدَةٌ، وإن كان إِجْمَاعُهُمْ عن أمارة فباطل أيضًا؛ لأنَّ الأَمَارَاتِ تَخْتَلِفُ باختلاف أَحْوَالِ الناظِرِينَ فيها؛ فيمتنع اتِّفَاقُ الخَلْقِ العَظِيم على مُوجبِهَا. أو لأنَّ كثيرًا من الأُمَّةِ أَنْكَرَ كَوْنَ الأَمَارَةِ حُجَّةً. وإن كان لا لِوَاحِدٍ منها، كان خَطَأً بالإِجْمَاعِ. والفرق بين هذا الوَجْهِ والثاني أن الثَّاني تقسيم في مُسْتَنَدِ صِحَّةِ الإجماع على الجُمْلَةِ، وهذا تقسيم في مستند اتِّفَاقِهِمْ على الحكم المعين، وإن كان تقرير الجميع راجعًا إلى نَفْي المدرك، وإن اختلفت العِبَارَاتُ.