النَّقِيضَينِ على الصِّدْقِ، ومن جُمْلَةِ ذلك كَذِبُ من يَدَّعِي رِسَالة بغير مُعْجِزَةٍ ولا تصديق ممن ثَبَتَ صِدْقُهُ له؛ لأن العَادَةَ على خلافه.
قوله:"وَيتَفَرَّعُ عليه أن كُلَّ خَبَرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يوهم الباطل؛ كَالتَّشْبيهِ وغيره: فإن كان يحتمل نَوْعًا من التَّأويل اللَّائِقِ، لم يقطع بكونه كَذِبًا، فإان لم يَحْتَمِل إلا التَّأْويلَ البعيد، وَجَبَ القَطْعُ بكونه كَذِبًا، أوَ بأنه كان - عليه السلام - تَكَلَّمَ قبله أو بَعْدهُ بِكَلام يُزِيلُ تلك الشُّبْهَةِ، والناقل لم ينقله؛ لأنا لو لم نَعْتَقِدْ ذلك، لَزِمَ أن يقال: إنه كان جَاهِلًا بالله تعالى، والجَاهِلُ بالله -تعالى- لا يكون نَبِيًّا":
هذا التَّفْرِيعُ يخرج على قَاعِدَةٍ؛ وهي أن كُلَّ مَا وَرَدَ في الكِتَاب والسُّنَّةِ مما يُوهِمُ التَّشْبيهَ في الأَسْمَاءِ والصفات، فيمتنع منه أن يَرِدَ مُتَوَاتِرًا لا يَقبَلُ التأويل؛ لأن الشَّرْع إنمَا يثبت بالعقل، وهو شَاهِدُهُ.
فلو جَاءَ بما يكذبه لم يثبت عَقْلٌ ولا شَرْعٌ. وما وَرَدَ من ذلك في أَخبَارِ الآحَادِ، وكان لا يقبل التَّأويلَ أَلبَتَّةَ، أو التأويل الَّلائِقَ بِفَصَاحَتِهِ- قَطعنا بكذب راويه، أو يحمل على الغَلَطِ. وإن كان لِلتَّأويلِ الصَّحِيحِ فيه مَجَالٌ، فيتعين أن يُقْطَعَ بأن المَحمَلَ البَاطِلَ غير مُرَادٍ. ثم يُنْظَرُ بعد ذلك إلى اللَّفْظِ: فإن بقي له احْتِمَالٌ واحد، تعين أن يكون مرادًا لحكم الحال، فإن بقى أكثر من وَاحِدٍ، وكل واحد منها جائز الإرَادَةِ: فإن دَلَّ قَاطِعٌ شَرْعِيٌّ على تَعَيُّنِ أحدها - عَيَّنَاهُ؛ وإن لم يَدُلَّ قَاطِعٌ، فهل نعين بِمَسَالِكِ الظَنون؟ اختلفوا فيه: فَمَذهَبُ السَّلَفِ -رضوان الله عليهم- أنَّهُ لا يَجُوزُ التعيين بذلك خَشيَةَ الإِلْحَادِ في الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ.
قالوا: وَيتَعَيَّنُ أن يعتقد أَنَّ له مَحْمَلًا صَحِيحًا في نَفْسِ الأَمْرِ يعلمه الله -تعالى- وعلى هذا يُحْمَل قَوْلُ بعض السلف.
ويقال: إن مالكًا لما سُئِلَ عن الاسْتِوَاءِ قال: الاستواء معلوم، والكَيفُ مَجْهُول، والإيمان به وَاجِبٌ، والسؤال عنه بدْعَةٌ؛ يعني: أن مَحَامِلَ الاستواء في اللغة تفيد القَطْعَ بأن الاسْتِقْرَارَ غير مُرَادٍ من القَهْرِ والاستعلاء، أو القصد، أو التَّنَاهِي في صفات الكَمَالِ.