وَلقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ إلا الظَّنَّ الضَّعِيفَ.
===
قلنا: دَلَّتِ القَصَصُ على أنهم لم يَعْمَلُوا إلا بما روي، وقد بَيَّنَّا أن خَبرَ العَدْلِ إنما يفيد الظَّنَّ لا العلم، ولو أَفَادَ العِلْمَ لَوَجبَ تخطئة مُخَالِفِه بالاجتهاد؛ كالمتواتر، ولعارض المُتَوَاتر، ولصدق النقيضان، ولما كلف المُدَّعِي بَيِّنَة، وكل ذلك خِلافُ الإِجْمَاعِ، أو العَقلِ، وإذا عَمِلُوا به، ولم يُوجِبْ عِلْمًا كان العَمَلُ للظَّنِّ المُسْتَفَادِ من قول العَدْلِ، وهو القَدْرُ المُشتَرِك في جَمِيعِ الوَقَائِعِ؛ فإنا نَقطَعُ بأن خُصُوصِيَّاتِ تلك الصُّوَرِ الفَرْعِيَّةِ سَاقِطَةٌ عن الاعْتِبَارِ؛ فإنها طَرْدٌ مَحْضٌ، وما ينقل عن الصَّحَابَةِ من رَدِّ بعض الأخَبَارِ، أو التَّوَقُّفِ عن العَمَلِ إلى زيادة رَاوٍ، وتحليف- لا يُعَارِضُ مَا قَرَّرْنَاهُ، وطريق التوفيق حَمْلُ الرَّدِّ على عدم ظُهُورِ الثِّقَةِ، أو العَدَالةِ، أو الاستظهار بما يُؤَكِّدُ الظَّنَّ، وجميع ذلك لا يبلغه إلى رُتْبَةِ العِلْمِ، ولا يخرجه عن الظَّنِّ، وهو من جُمْلَةِ الشواهد لنا، والله أعلم.
قوله:"الحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَجْمَعْنَا على أَنَّ الخَبَرَ الذي لا يقطع بِصِحَّتِهِ مَقبُولٌ في الفَتْوَى والشهادة، فَوَجَبَ أن يكون مَقبُولًا في الرِّوَايَاتِ":
هذه العبارة مستدركة، وهي قوله:"أَجْمَعْنَا على أن الخَبَرَ الذي لا يُقطَعُ بصحته مَقبُولٌ"؛ فإنه يُوهِمُ أنهم إنما قَبِلُوهُ؛ لأنه لا يقطع بِصِحَّتِهِ، ويلزم منه قَبُولُ خَبَرِ الكَافِرِ والفاسق، وليس الأَمْرُ كذلك؛ بل إنما قُبِلَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بصحته مع زَيادَةِ تَحْسِينَاتٍ شرْعِيَّةٍ في عَدَمِ قَبُولِ خبر الكَافِرِ حطًّا لِمَنْصِبِه، وإن كان مِمَّنْ يُجَانِبُ الكَذِبَ، وعدم قبول شهَادةِ العَبْدِ فإنه منحط، وكذلك عَدمُ قَبُولِ شهادة النِّسَاءِ في بَعْضِ المَحَالِّ، وإنما أراد التَّعْرِيضَ بأن عَدَمَ القَطعِ مع ظُهُورِ العَدَالةِ ليس بِمَانِعٍ لقبول الخَبَرِ؛ إذ لو منع في الخبر لَمَنَعَ في الفَتْوَى والشهادة؛ وفيه تَنْبِيهٌ على وَجْهٍ آخر؛ وهو أنه لما قسم الخَبَرَ من قبل إلى ما يُعْلَمُ صِدْقُهُ، وإلى ما يُعْلَمُ كَذِبُهُ، وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه، واسْتَوْعَبَ أَحْكَامَ القِسمَينِ الأولين- أراد التَّصْرِيحَ بِأَنَّ البَحْثَ في أن خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ حُجَّةٌ مندرج تحت القِسْم الثَّالِثِ، وأنه مَعْمُولٌ به على ما سَنُبَيِّنُهُ إن شاء الله تعالى؛ ليكون بالكَلامِ عليه مستوعبًا لجميع أَحْكَامِ الأَخبَارِ.
قوله:"والجامع تَحْصِيلُ المَنْفَعَةِ المَظنُونَةِ، أَوْ دَفْعُ المَفْسَدَةِ المَظنُونَةِ" هذه حكمة الحكم، وفي التعليل بالحِكْمَةِ خِلافٌ، والأقوى مَنْعُهُ؛ لعدم انضباطها، فلا يعلم مُجْرَى الحُكمِ من مَوْقِفِهِ؛ وإنما الجَامِعُ ها هنا عُمُومُ الحَاجَةِ إلى الحُكمِ، وعُسْرِ اليقين؛ فاكتفى بالظَّنِّ كَدَأبِ العُقَلاءِ في تَصَرُّفَاتِهِمْ؛ فإنهم عند العَجْزِ عن اليقين يَفْزَعُونَ إلى الظُّنُونِ الرَّاجِحَةِ.
قوله:"ولقائل أن يَقُولَ: إنه لا يُفِيدُ إلا الظَّنَّ الضعيف":
يعني: والمسألة قَطعِيَّةٌ؛ فإنها من الأُصُولِ المُهِمَّةِ في الدِّين يَسْتَنِدُ إليها كَثِيرٌ من الأَحْكَامِ.