للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَثَبَتَ بِهذَا التقسيم: أَنَّ الْقرآنَ وَالعَقلَ وَافِيَانِ بِتِبيَانِ جَمِيعِ أَقْسَامِ التكَالِيفِ إِلَى الأَبدِ.

إلَّا أَن ههُنَا بَحثًا آخَرَ، وَهُوَ: أَن فِي بَعضِ الوَقَائِعِ جَاءَتِ النصُوصُ الدّالَّة عَلَى أَحكَامِ تِلْكَ الْوَقَائِع عَلَى سَبِيلِ التفْصِيلِ، فَأَينَمَا وَجدنَا مِثلَ هذَا النص، قَدمنَاهُ عَلَى الطرِيقِ الأوَّلِ؛ لِمَا ثَبَتَ أَنَّه يَجِبُ تَقدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.

===

وقد ادَّعَى أوْلًا: أن نصوص القرآنِ وافيَةٌ بالأَحكَامِ، ثم استنتج أن العَقلَ والقرآنَ كافِيَانِ، وعَنَى أن ما خلا من نَص خَاصٍّ، فيجبُ البحثُ عنه بالعَقلِ: فإن كان مصلحة خالصة أو راجحةً، فحكمُهُ الإذنُ مع عفمِهِ بانقسامِ الإِذنِ إلى مباح ومندوب وواجب، وأن مُطلَقَ الإذنِ لَا يَثبُتُ بدونِ خُصُوص، فَلَيتَ شِعرِي على أيِّ خُصُوص نُثبِتُهُ؟ !

وكذلك عَكسُهُ؛ وهو خالصُ المفسدة، أو راجِحُها يَقتَضِي المَنعَ مِن اَنقِسَامه إلى محظور ومَكرُوه، وقال: "عملًا بمقتضى العمومَاتِ الدالة علَى أَن الله -تعالى- شَرَعَ الأَحكَامَ لإصلاحِ العِبَادِ على الجملة"، فانظر كَيفَ مَنَعَ من القياس، وأَوجَبَ العَمَلَ بالاستحسانِ والمَصَالِحِ المُرسَلَةِ التي هي أَعَم من القياسِ، ومِن لازِمِها العَمَل بالقياسِ، واكتفى في الاعتبارِ باعتبارِ جنسِ المَصَالِحِ في جنسِ الأَحكَام، وحَكَمَ به مع قطعِ النظَرِ عن الخصوصيات، والقائلون بالقياسِ لا يكتَفُون بذلك القَدرِ؛ بل لَا بدَّ مع ذلك من اعتبار الجنسِ الأقرَب، ومراعاةِ مقصُودِ الشرع بتأثير أو ملائمة، حتى منَعَ بعضُهم العمَلَ بالمناسِب القَرِيب، ومَنْ قال بالمرسَلِ، فالصحيح مِن رأيه: أنه إنما يُعمَلُ به مع التقريب من مقصودِ الشَّرعِ، ويشترط أن تكُونَ المصلحةُ المعتَبَرَةُ قطعيةً؛ أي: حاصلة قطعًا، كُليةً؛ أي: عامة، ضرورية؛ على ما تحقق في موضعه، ويعني بـ "الضرورية": أنها من الضرورياتِ لا التتمات والتحسينَاتِ؛ فَانظُر ما في هذا الكلامِ من التناقُضِ والبُعدِ عن جميع مَآخِذِ الأئمةِ، والبناء على أُصُول باطلة؛ وتَرَك الاعتراضَ عليها.

والاستدلالُ بالعقل لمن ينفى الاعتمادَ على العَقلِ أو يحرّمه من الظاهرية: إِن أراد تعميمَ الحُجَّة؛ على ما هو ظاهرُ كلامِهِ، وإنما يمكنُ التمسك بها للرافضة أو المعتزلَةِ مِنَ البغداديين القائلين بالتحسينِ والتقبيحِ، فإن الأحكام من صفات أنفُسِ الأفعالِ، أو تابعَة لها؛ والشرع مخبر عن صفَتِها لا مُثبِتٌ للحكم فيها.

والذي يَشفِي الغليلَ في رَدِّ هذه الشبهةِ: أن نَقُولَ: وإنْ سلمنا أن الواقِعَ في الشرع مراعاةُ مصالِحِ العبادِ؛ فضلا من الله ونعمة، لا وجوبًا عليه؛ على ما أشارَت إِليه النصوص، ودَل عليه الاستقراءُ في كثير من الأحكامِ، إلا أن الشارعَ اعتَبَرَها بشرائِطَ وقيود لا يهتَدِي العقلُ إليها، ولا يستقِلُّ بإِدراكِها؛ فإن غايةَ ما في العَقل أن يدرك أَن السرِقة مَفسَدَة، وأنها تُنَاسِبُ شرعَ عقوبة صارفة لها، وليس في العقل ما يعين القطعَ صارفًا ودافعا لهذه المفسدة، دون شَرعِهِ صارفًا في الغَصْب والنَّهبِ، وليس فيه ما يُعَيِّن مَحَل القطع، ولا القَدرَ المقطوعَ منه، وكذلك غايَتُهُ في

<<  <  ج: ص:  >  >>