للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرَّابعُ: أَنَّهُ تَعَالى، لَوْ فَعَلَ لِغَرَضٍ -لَكَانَ ذلِكَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، أَوْ حَدِيثًا: فَإِنْ كَانَ حَادِثًا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا- لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الْفِعْلِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ.

===

فنقولُ له: أمَّا نحْنُ، فَقَدْ عُرِفَ من أصْلِنا أنا لا نعنى بالعلَّة إلا المُعَرّفَ؛ لثبوت الحُكْم بنصب الله -تعالى- له الذي يَلْزَمُ مِنْ تَعلُّق الحكْمِ به مصلَحَةٌ لنا عادَةً، ومنَّةٌ من الله تعالى.

وأما المعتزليُّ، فنقول له: لم قُلْتَ بأن الجَوَادَ إذا كان عطاؤُهُ عند الحاجَةِ يَلْزَمُ أن يكون ناقصًا لذاته عند عَدَمِ الحاجة؛ فإذا عَلِمَ الله -تعالى- أنْ كَمَال الإنسانِ في معرفته لربِّه، وعَلِمَ أن إكمال عَقْلِهِ ونَصْبَ الدلائلِ الظَّاهرة له علَى معرفته، وإِرْسال الرسولِ وإنزال الكُتُبِ- مما يُيَسِّرُ حصُولَ ذلك له، فأَنْعَمَ عليه بجميعِ ذلك، وأيَّده بأسْبَاب التْوفِيقِ له عنْدَ حاجَتِهِ إلَيها -: [وجب] أن يكونُ ناقصًا قَبْلَ ذلك؟ ! إِذا كان المرجعُ في الكَمَالِ والنقْصِ إلى تعارُفِ العقَلاءِ. هذا قولُهم، وأما نحن، فنقول: الكمال أَنْ يَفْعَلَ ما يشاءُ، ويحكم بما يريد؛ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣]؛ وإنما ينشأ هذا الغلَطُ للفلاسِفَةِ من اعتِقادهم أن كمال الشيءِ أَنْ يحصُلَ له بالفعْلِ مَا هُوَ له بالقوَّةِ، والبارئُ عنْدَهُمْ موجِبٌ لذاته، وتخلُّفُ ما هو للذاتِ نقْصٌ، وقد بيَّنَّا أنه فاعِلٌ بالاختيارِ؛ فَأضْمَحَلَّ هذا الخيالُ.

قوله: "الرابعُ: أنَّ الله تعالى لو فَعَلَ لغَرَضٍ، لكان ذلك الغَرَضُ: إما قديمًا أو حادثًا، فإن كان حَادِثًا، كان فِعْلُهُ لغَرَضٍ آخَرَ، ويَتَسَلْسَلُ، وإِن كان قدِيمًا، لَزِمَ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُ الفعْلِ؛ وهو محالٌ".

والجوابُ: أنْ يقال: لَفْظُ الغَرَضِ لا نُطْلِقُهُ على الله تعالى؛ فإنه يسبِقُ إلى الفهم منه ما هو مقرر في الشاهد؛ وهو أنَّ العاقِلَ إذا علم أو اعْتَقَدَ أن للفعْلِ سُرُورًا ولذَّةً في نفسه أَوْ ما إلى ذلك -ترتَّب عليه مَيلُهُ للفعْلِ بما جُبِلَ عليه من المَيلِ إلى المُوَافِقِ، وترتَّب عليه همه وقَصْدُه إلى الفعْلِ، وإِذا عَلِمَ أو اعْتَقَدَ أنَّه غَمٍّ أو أَلَمٌ في نَفْسه أو سَبَبٌ لذلك فرَّ عنه؛ فكان ذلك سببًا لترتُّب قَصْد الانكفافِ عنه؛ فيكونُ ترجيحُ العَبْد للفعْلِ أو التَّرْك مَبْنيًّا على النفْعِ والضُّرْ، والبارئُ تعالى يُنَزَّهُ عن ذلك؛ فالغَرَضُ لفظٌ موهِمٌ لم يَرِدْ به شرْعٌ؛ فلا نُطلِقه.

فإذا تقرَّر ذلك، فيقَالُ له: إنْ أُرِيدَ بالغَرَضِ هذا، وأنَّ فعل الله لا يتوقَّف علَى ذلك - فَمُسَلَّمٌ بطلانُهُ، وإن أُرِيدَ به أنَّه سبحانه إِذا كان عَالِمًا في أَزَلهِ؛ أنه إذا خَلَقَ الليلَ والنَّهار للسُّكون والمعاش؛ نعمةً منه، وأنَّه إذا أنشَأَ جناتٍ معْرُوشَاتٍ وغَيرَ معروشاتٍ، والنخْلَ والزرْعَ مختلفًا أُكُلُهُ؛ لِلاعتبارِ والأَكَلِ؛ فأوجده لهذه الحكمةِ؛ كلما أثار إِليه في كتابه العزيزِ إِلَى غير ذلك، وأنَّه إذا شَرَعَ القِصَاصَ لنا حَيَاةً، وحَرَّم الخمر؛ حِفْظًا للعقولِ، والزِّنَا؛ حفظًا للأنْسَابِ- فَمِنْ أَينَ يَلْزَمُ منه قِدَمُ الفِعْلِ أو التَّسَلْسُلُ في الحوادِثِ، وإنما الشَّنَاعَةُ في تسْمِيَةِ هذا غَرَضًا، وإن أريد به معنى آخَرَ، فلا بد مِنْ إفساد تصوُّره؛ لينظرَ استحالتُهُ أو جوازُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>