للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ، كَانَ حُصُولُ ذلِكَ الْغَرَضِ لَهُ أَوْلَى مِنْ عَدَمِ حُصُولِهِ؛ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ مُسْتَكمَلًا بِغَيرِهِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللِه تَعَالى.

فَإِنْ قَالُوا: غَرَضُ اللِه تَعَالى عَوْدُ النَّفْعِ إِلَى الْعَبْدِ:

فَنَقُولُ: عَوْدُ النَّفْعِ إِلَى الْعَبْدِ: إِنْ كَانَ أَوْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللِه مِنْ عَدَمِ عَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيهِ - فَقَدْ عَادَ حَدِيثُ الاسْتِكْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى، فَقَدْ بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالْغَرَضِ.

===

علَّةٌ لوجودِ السِّقَاءِ، فإذا تقرَّر هذا، فللمعتزليِّ أنْ يَقُولَ: إذا عَلِمَ الله -تعالى- أَنَّ إِحْدَاثَ الحادِثِ المعيَّنِ في الوقْتِ المعيَّن يَتْبَعُ وقوعَهُ حكمةٌ لا تحصُلُ من غيره، فأراد إيقاعَهُ لترتُّب تلْك الحِكْمةِ عليه- فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ ذلك يستلزمُ الاستغناءَ عن الفَاعِلِ والتسلسُل علَى هذا التفْسِيرِ؟ ؟ فإِنْ قَال: الحِكْمَةُ ممكنةٌ في نَفْسِها، والقُدْرَةُ صالحةٌ لإِيجاد كُلِّ مُمْكِنٍ؛ فلا يتوقَّفُ إيجادها علَى غَيرها.

قُلْنا: لا نُسَلِّم أنَّ كلَّ ما كان مُمْكِنًا في نَفْسِه يمكنُ وجوده علَى تَجَرُّده، وإلا لَجَازَ خَلْقُ الأَعْرَاضِ بدون الجوهرِ، وخلْقُ العالم بدون حياة.

قولُهُ: "الثالثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعلًا لِغَرَضٍ، كان حصولُ ذلك الغَرَضِ أَوْلَى به مِنْ لا حُصُولِهِ؛ فيكون ناقصًا بذاته، مُسْتَكْمَلًا بغيره؛ وهو مُحَالٌ في حَقِّ الله تعالى.

فإِنْ قالُوا: الغَرَضُ عَوْدُ النفْعِ إلى عبده.

قلنا: عَوْدُ النفْعِ إلى عَبْده: إِن كان أَوْلَى بالنسبة إِليه مِنْ عدمه، فَقَدْ حدث الاستكمال، وإن لم يكُنْ، فَقَدْ بَطَلَ التعليلُ":

أعلَمْ أنَّ أصْلَ هذه الشبهة للفَلاسِفة، وقد تمسَّكوا بها في قِدَمِ العَالمِ؛ فقالوا: إِنْ كان وَاجِبُ الوجودِ لم يكُنْ موجودًا في الأَزَلِ، ثم صار موجودًا لزم أن يكُونَ ناقصًا بذاته مُسْتَكْمَلًا بفعْلِهِ؛ وهو محال؛ فوجب أن يكونَ موجبًا أَزَلًا وَأَبدًا.

جوابها: أنْ نقول: مِنْ كمالِ ذاتِ البارئِ -تعالى- ثبوتُهَا في الأَزَلِ على صفَاتٍ يَتَأَتَّى بِهَا الخلق والاختراع حيث أَمْكَنَ ذلك؛ إذ إثباتُ الإِحْدَاثِ أَزَلًا محالٌ؛ لما ثبت أنَّه فاعلٌ بألاختيارِ، فإنَّ ما يقتضي لذاتِهِ لا يخصِّصُ مِثْلًا عن مِثْلٍ، والبارئ -سبحانه- قد خصَّص مِثْلًا عن مِثلٍ؛ وليس مُوجِبًا بالذَّاتِ؛ فهو فاعلٌ بالاختيارِ، والفاعل المختارُ لا بُدَّ وأن يكون قاصدًا لِفعْلِهِ، والقصْدُ إلى إيجادِ ما هو موجُودٌ تحصيلُ الحَاصِلِ؛ فَلا بُدَّ مِنْ سَبْقِ علْمِهِ علَى وجُودِهِ؛ لِيَصِحَّ القَصْدُ إلى إيجَادِهِ، ولَيسَ ذلك السَّبْقُ مجرَّدَ سبْق بالذَّاتِ؛ ليقال: عَدَمُهُ لذاتِهِ، ووجودُهُ من غيره، وهما معًا؛ لأنَّ عدم الشيءِ لا يجامِعُ وجودَهُ، والمسبُوقُ بالعَدَمِ لا يكون أزليًّا.

ويلزمهم على سياقِ شبهتهم أَلّا يوجَدَ شيءٌ من الحوادِثِ اليوميَّةِ؛ كيف ومِنْ مذهبهم أنَّ العَقْل الفَعَّال قديمٌ، وأنَّه يُفِيضُ على كُلِّ قابلٍ ما يستحقُّه عند كمال أستعدادِهِ لذلك، ولا يُعَدُّ ناقصًا بذاته قبل الحاجة ولا تخيُّلًا، وإذا تقرَّر بطلانُ أصْلِ هذه الشبهة عُدْنَا إلى استعماله لها في الرَّدَّ على المعلِّلة لأَحْكَامه -تعالى- وأفعالِهِ بالحُكْمِ المرتَّب عليها مِنْ صلاحِ العبادِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>