ذكَرنا أن الأمْرَ بالإِيمَانِ والطاعة تكليفٌ بالجَمْعِ بين الضدين -يعني: عَلَى هذَا التقْدِيرِ- وذلك محالٌ": يعني: أنَّه مع خَلْقِ دَاعِي المخْالفَةِ الذي تَعَلَّقَ علْمُهُ بوقوعه وإرادته له: لو خلق دَاعِيَ الموافَقَةِ، لكان ذلك جَمْعًا بين الضِّدَّينِ؛ فلا صلاح لهم على هذا التقدير في التكْلِيفِ بذلك.
يقال له بطريق الجَدَلِ: لِمَ قُلْتَ: إنه يلْزَمُ من نفي الصلاح بالنِّسْبة إِلَيهم نفْيُ أصْلِ الصَّلاحِ بالنِّسْبَةِ إلى التكليف مُطْلقًا؟ لا بد لهذا من دَليلٍ، وإنما هو أصْلُ الشَّيخِ أبي الحَسَنِ -رحمه الله- فالتكليفُ عنده عِلْمٌ للشَّقَاوَةِ والسعادَةِ؛ فمِنْ ثَمَّ جَوَّز التكليفَ بما لا يُطَاقُ، وبخلافِ المَعْلُومِ؛ قال الله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء: ١٦].
قولُهُ: "الثَّاني: أن العالمِ مُحْدَثٌ؛ فاختصاص حدُوثِهِ بالوقْتِ المعيَّن: إما أن يكون لاشتمالِ ذلك الوَقْتِ على خصوصيَّةٍ لأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ اختصاصَهُ بحدوثه فِيهِ بِعَينِهِ، أو لم يكُنْ كذلك: فإنْ كانَ الأَوَّل: عاد التقسيمُ في اختصاصِ ذلك الوقْتِ بتلك الخاصيَّة، فإن كان الثاني فحينئذٍ [يجوز أن يكون ذلك الوقت بذاته يوجب حصول تلك الخاصية وإذا جاز ذلك فحينئذ] يمتنع الاستدلالُ بحدوث الحوادِثِ على وُجُود الفاعِلِ؛ لاحتمال أَنْ يَكُونَ المؤثِّر فيه ذلك الوقْتَ بعينه، وإِن اخْتَصَّ ذلك الوقْتُ بتلْكَ الخاصِّيَّةِ [لأجل اختصاصه] بخاصِّيَّة أخرَى -لزم التسلسل، وهو محال، وإِن كان اختصاصُ ذلك الوقْتِ بحدوثِ العَالمِ لَيسَ لِغَرَضٍ ولا لِعِلَّةٍ- كان توقيفُ أحكامِ الله -تعالى- وأفعالِهِ على العِلَلِ مُحَالًا":
يقال له جَدَلًا: لِمَ قُلْتَ: إِن الْعِلَّة الغائبة يَجِبُ تقدُّمها في الوجُودِ العَيبِيِّ؛ ليلزم التسلسلُ؟ ؟ ومعلومٌ أن العلَّة الغائبة إنما يجبُ تقدُّمها في العِلْمِ، وأَنَّ وُجُودَهَا في الأَعيانِ تَبَعُ لوجُودِها هِيَ عِلَّةً فيه، ولا دَوْرَ لتميُّزِ الوجودِ العِلْمِيِّ عن الوجودِ العَينِيِّ، ومُغَايَرَتِهِما.
ومثالُ ذلك: أنَّ اعتقاد وجود الشِّفَاءِ بشُرْب الدَّواء يكون حَامِلًا وسَائغًا للشُّرْب، والشُّرْبُ