قال: وقال الطبريُّ: قاله الشافعيُّ، وحمله جماعة من أصحابه، ونسب بعضُ المتأخرِّين إلَيه في المسألة قولين تَخرِيجًا. وقال المُزَنِيُّ: اتخاذ الإصَابَة مَذهَبُ أصحابنا المُتَقَدِّمِينَ والمتأخِّرين.
وقال أبو إِسحاقَ المَرْوَزِيُّ: لا أعْلَمُ أحدًا من الأصْحَابِ اخْتَلَفَ في ذلك مِنْ مَذْهَبِهِ إلا ما نَسَبَهُ إِلَيه من لا يعرفُ مَذْهَبَهُ مِنَ المتأخِّرين في قوله: أدَّى ما كُلِّف به. وكُلُّ موضعٍ وَقَعَ فيه ذلك؛ فإن قبله أو بعده نَصًّا على ذلك أنَّ الحقَّ وَاحِدٌ، وإنما أراد بذلك حَطَّ الإِثم عنه؛ لأنَّه لم يَأْلُ جُهدًا فِي اجتهادِهِ، والكُلُّ مُتَّفِقُونَ على سقُوطِ الإِثْمِ عنْدَ الخطإِ؛ لإِجماعِ الصَحابةِ؛ فإِنهم اجتهَدُوا، واختلفوا، وَلَمْ يُؤَثَّموا.
وخالفَ في ذلك بِشْرٌ المريسي، وزعَمَ أنَّ على الحُكمِ دليلًا قَاطِعًا، وأنَّ المجتَهِدَ مُكَلَّفٌ بإِصابَتِهِ، وأن مخطئه آثِمٌ، وتابعه علَى ذلك الأصمُّ وابْنُ عُليَّةَ من القائِلِينَ بالقياسِ، وَوَافَقَهُ جَمِيعُ فقهاءِ نُفَاةِ القياسِ، ومِنهُمْ الإمامية؛ فإنَّهم قالُوا: لا مَجَال للنَّظَرِ في الأحكامِ، والعَقلُ قاضٍ بالنَّفْي في جميع الأحكامِ إلا ما استثنَاهُ دليلٌ سمعيٌّ؛ فما أثبته دليل سمعي، فهو ثابتٌ، وما لا، فهو على النفْي الأصليِّ، وإِنما استَقَامَ لهم هذَا المَذْهَبُ بإنْكَارِهِمُ العَمَلَ بِخَبَرِ الواحِدِ والقياسِ؛ كما أنْكَرُوا الحُكمَ بالعمومِ، والظَّاهِرِ المحتمل.
قال الغَزَّالِيُّ في "المستَصفَى": ويلزمهم عَلَيهِ منع التقليدِ، قال: وقد رَكِبَ بعْضُ معتزلةِ "بغداد" رأسَهُ في الوَفَاءِ بهذا؛ وقال: على العامِّيِّ أن يسأل المجتهدَ عَنْ مَأخَذِ الأحكامِ، فَإِذَا وَقَفَ عليه عَمِلَ، ومن تصفَّح دواوينَ الفقْهِ، عَلِمَ عِزَّةَ نَصٍّ قاطعٍ في الأحكامِ المجتَهَدِ فيها، ولو كان لَمْ يَخفَ مع شدَّةِ الطَّلَب على الباحِثِينَ عادَةً، وما اختلف فيه الصحابَةُ من المَسَائِلِ وسَوَّغوا الاجتهادَ فيها وأقرُّوا عليه، لَا يُلْقَى فيه قاطِعٌ.
وبشْرٌ ومُتَّبِعُوه والإِماميَّةُ محجوجُونَ بإِجماعِ الصحابةِ، وساعَدَ بشْرٌ مع التخطئةِ والتأثيمِ علَى أنَّه لا يُنْقَضُ قَضَاءُ القاضِي به، وخالفَ الأَصَمُّ.