ومختارُ المُحَصِّلين ما نقله الشِّيرَازِيُّ عن جمهورِ أصحابِ الشافعيِّ أنَّ لِلهِ تعالى في الواقعةِ حُكْمًا، وأن عليه دليلًا ظَنِّيًّا، وأن المجتهدَ مُكَلَّفٌ بإصابتِهِ، وأن المُصِيبَ واحدٌ، وأن الإثْمَ محطوطٌ عن المخطئ، وأنَّه لا ينقض إنْ لَمْ يُخَالِفْ قياسًا جَلِيًّا؛ هذا إِذا لم يكُنْ في الواقِعَةِ نَصٌّ معلومٌ، فإنْ كَانَ فيها نَصٌّ، فَقَصَّرَ في طلبِهِ، فمخطئٌ آثمٌ بالحُكْمِ، وإن لم يقصِّر، فالصَّحيح أنه مخطئٌ غَيرُ آثِمٍ، وأَنه ينقضُ إن كان صَرِيحًا بَعِيدًا عَنْ قَبُولِ التَّأْويل اللائِقِ، وقد أَشَرْنَا إِلَى بَعْض أدِلَّة هذه الدعاوَى في غُضُونِ الكَلامِ، وستأتي الحجج علَى ما بَقِيَ منها، إنْ شَاءَ الله تعالى.
قولُهُ:"والمُختَارُ عِنْدَنَا: أنَّ الوقائِعَ على ضَرْبين: منها ما لِلهِ تعالى فيه حُكْمٌ هو مطلُوب المجتهدِ، ومِنْهَا ما لَيسَ فيه حُكْمٌ ثبوتيٌّ، وإنما حكمه براءةُ الذِّمَّةِ، والبَقَاءُ على العَدَمِ الأصليِّ":
يعني: أَنَّ نَفْيَ الحُكمِ الشرعيِّ ليس بحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وإِلا لكان قسيمُ الشَّيءِ قسْمًا منه، ولا يُقَالُ: هذا قَولٌ مُتَنَاقِضٌ؛ فإن البقاء على الأصْل حُكمٌ بالسَّلْبِ؛ لأنا إِنَّمَا نَعْنِي بالسَّلْب الأَحْكَامَ الخمسةَ لا عموم السَّلْبِ؛ فلا تناقض.
الأول: أنَّه إِذا اعتقد أحد المجتهدين أنَّ الطَّعْمَ أَوْلَى؛ لكونه علَّةً لحرمة الرِّبَا، والثَّاني اعتقد أنَّه ليس أَوْلَى- فهذه الصفة في نفس الأَمْرِ: إن كانَتْ أَوْلَى بالعِلِّيَّةِ، كان الثاني مخطئًا، وإِن لم تَكُنْ أَوْلَى بالعلِّيَّة، كان الأول مُخْطِئًا؛ فَثبَتَ أنَّه لا بُدّ وأنْ يَكُونَ أحَدُهما مُخطِئًا في نَفْسِ الأَمْرِ":
والاعتراضُ عليه أنْ يقال: قد قَرَّرنا أنَّ الأَحْكَامَ لَيسَت صفاتٍ للمحالِّ، ولا تَابِعَةً لأوصافِ المحالِّ؛ فإِنَّ ذات الخَمْر وشُرْبَها لم تختلِفْ قبل التحريم ولا بعده، ولم تكن محرمة ولا الإسكار علة، ثم صار شرابها حرامًا والإسْكَارُ علَّةً وما ثَبَتَ للذَّاتِ أو للازم الذَّاتِ لا يَزُولُ، وإذا رجع الحُكْمُ إِلَى مَحْضِ تعلُّقِ الخطاب بالأَفْعَالِ، وكانت المؤاخَذَةُ فيه مشروطة بِالاطِّلاع، ولا قاطِعَ- فلا يمتنع أَنْ يَقُولَ الشارعُ لشَخصٍ: افْعَل كَذَا، ولآخَرَ: لَا تَفْعَلْهُ في زَمنٍ واحدٍ؛ فلا أولويَّةَ إلَّا في ظَنِّ المجتهدِ، ولا يمتنعُ أنْ يغلب علَى ظَنِّ أحَدِ المجتهدِينَ طَرَبٌ، وعَلَى ظَنِّ آخَرَ عَكسُهُ، وهو الذي أوجبَ الشارعُ عليه اعتقادَهُ، وألزمه العمل به بالإِجماعِ، ولو حكم بغيره حينئذٍ، لأثم ونقض بالإِجماعِ.
قوله: "الثاني: أن المجتهد: إِما أنْ يَكُونَ مكلَّفًا بأنْ يَبْنِيَ الحُكمَ علَى طَرِيقٍ: أَوْ لَا عَلَى طريقٍ: والثاني: باطلٌ؛ لأن القَوْلَ في الدِّين بمجرَّد التَّشَهِّي باطل؛ فثبت أنه لا بُدّ من طريقٍ: وذلك الطريقُ إِمَّا أَنْ يكونَ خاليًا في نَفْسِ الأمْرِ عن المعارِضِ أَوْ لَا يَكُونَ خاليًا عن المعارِضِ، فَإنْ كَانَ خاليًا عن المعارِضِ تعيَّن ذلك الحُكمُ؛ فيكونُ تارِكُهُ مخطئًا. فإنْ كَانَ له معارِضٌ: فإما أَنْ يَكُونَ أحدُهُما راجحًا على الآخَرِ، أو لا يَكُونَ أحدُهُمَا راجحًا: فإن كان أحدهما راجحًا، كان العمل به واجبًا بالإجماعِ، ويكون تاركهُ مخطئًا، وإنْ لم يكُنْ أحدهما راجِحًا، فحكمه حُكمُ