للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

اجْتهاد الأَنبياءِ؛ لِقُدرَتِهِمْ عَلى اليقينِ بالوحْي، أَوْ بنزولِ نَصٍّ مُوافِقٍ لِحُكمِ سُلَيمَانَ، أَوْ حَمْلِ الأَمْرِ عَلى شبهةٍ فِي الواقعةِ اختُصَّ بِحلِّها سُلَيمَان-: لا يسوغُ؛ فَإِنَّ الصحيحَ جَوازُ اجتهادِ الأَنبياءِ عَلى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَنَّهم لَا يُقرون على الخطإِ، وَفِي تَقْدِيرِ نزولِ نَصٍّ مُوافِقٍ لِحُكم سُلَيمَانَ تَسليمٌ لِلمسأَلَةِ، وَحُمِلَ الأمرُ على حَلِّ شُبهَةِ تَأويلٍ تُخَالِفُ نَصَّ الآيةِ؛ فَإِنَّها مُصَرِّحَة بالحكومةِ؛ وَأَقْوَى الحجج هذِهِ، وحجةُ الإِجْماعِ وَالخَبَرِ.

قَولُهُ: "وَاحْتَجَّ القَائِلونَ بأنَّه لا حُكمَ إلا مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الاجتهادِ؛ بأَنَّ المجتهدَ مأمُورٌ بِأنْ يَعْمَلَ عَلى ظَنِّهِ، وَلَا مَعنى لِحُكْم الله تعالى إلا مَا أَمَرَ بِهِ، فَإذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالعملِ بمقتضى ظَنِّهِ، وَعَمِلَ بِهِ -كَانَ مُصِيبًا؛ لأَنَّهُ قَطَعَ أَنَّه عَملَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَذلِكَ يَدُلُّ عَلى أَن كُلَّ مجتهدٍ مُصِيبٌ": وَهذَا وَاضِحُ المرادِ.

قَوْلُهُ: وَ"الجوابُ. . ." إلى آخِرِهِ:

حَاصِلُهُ وَجْهَانِ:

أحَدُهُما: مَغ أنَّه كُلِّفَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِ، وَإِنَّما كُلِّفَ بالعملِ على وَفْقِ الدَّلِيلِ.

وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ أَنَّه مَأمورٌ بالعمل بظنِّهِ لَكنْ بَعْدَ أَنْ أُمِرَ أَوَّلًا ببَذْلِ الوُسْعِ فِي طَلَبِ الدَّليلِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ فَيَصْدُقُ أَنَّهُ مُخطئٌ؛ لِعَدَمِ اطِّلاعِهِ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا.

واحْتَجُّوا أَيضًا: بِأَنَّه لَو كَانَ فِي الواقِعةِ حُكمٌ مُعَيَّنٌ، لَكَانَ عَليهِ دَليلٌ ظَاهرٌ؛ لامتناعِ تكليفِ المحالِ، وَلَوْ كَانَ عليهِ دَليل ظَاهرٌ، لأمكنَ نَيلُهُ، وَيكونُ غيرُ نَائِلِهِ حاكمًا بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ الله؛ فَيكونُ كافرًا أو فَاسِقًا، وَالكفرُ والفِسْقُ منتفٍ بِالإِجماعِ. لا يقالُ: الأَدلةُ غَامِضَةٌ يَصْعُبُ اسْتِخْراجُهَا، فكانَ غيرُ المُطَّلِعِ عَلَيها مَعْذُورًا؛ لأَنَّا نقولُ: يلزمُ مِثلُهُ فِي الأُصولِ، وَلَمْ يُعْذَرْ.

وَالجوابُ: أَنْ يقال: مَا المانعُ أَنَّه يقالُ: إِنَّهُ عندَ العجز حُطَّ عَنْهُ، وَصارَ حكمُهُ حُكمَ مَا غَلَبَ على ظَنِّهِ؟

فروع:

[الأول]: المجتهدُ إِذَا تَغَيَّرَ اجتهادُه كَما لَو ظَنَّ الخُلْعَ عَلَى الثلاثِ فسخًا، فَنَكَحَها قبلَ أَنْ تَنْكِحَ زوجًا غَيرَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بَعدَ ذَلِكَ أَنَّه طلاقٌ-: فَإِنْ كَانَ ذلِكَ بَعدَ أَنِ اقترنَ بالأَوَّلِ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُنْقَضْ، وإنْ كَانَ قَبْلَهُ، نُقِضَ، وَسَواءٌ كانَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَوْ فِي حَقِّ غَيرِه.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: إِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيرِهِ، لَمْ يُنْقَضْ. وَهُو ضعيفٌ؛ لأَن قَوْلَ المجتهدِ هُوَ المُتَّبَعُ؛ فَإِذَا تَغَيَّرَ الأَصْلُ، تَغَيَّرَ الفَرْعُ ضَرورةً، وَلَا يُنْقَضُ الحُكمُ بِالاجتهادِ مِنْهُ، وَلَا مِنْ غَيرِهِ؛ لِما يؤدِّي إِليهِ مِنْ نَقْض النقض إِلَى غير نِهايةٍ، وَتَفْويتِ مصلحةٍ نَصْبِ الحَاكِمِ، وينْقَضُ إِذَا خالفَ نصًّا قَاطِعًا أَو إِجْمَاعًا أَوْ قياسًا جَلِيًّا؛ لأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى ذلِكَ.

قَال الغَزَّاليُّ: ويُنْقَضُ إِذَا خَالفَ خَبَرَ الوَاحِدِ الصَّحِيحَ الذِي لَا يَحْتَمِلُ إلا التأويلاتِ البَعِيدةَ؛ كَخَبَرِ النِّكاحِ بِغَيرِ وَليٍّ وَنَحْوهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>