وَالثَّانِي: بَاطِلٌ أَيضًا؛ لأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، كَانَ وَضْعُهُمَا عَبَثًا؛ وَهُوَ عَلَى الله تَعَالى مُحَالٌ.
وَالثَّالِثُ: أَيضًا بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ يَحْصُلُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيرِ مُرَجِّحٍ.
وَالرَّابعُ: بَاطِلٌ أَيضًا؛ لأَنَّهُ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّخْيِيرِ بَينَ الْفِعْلِ وَالتَّركِ، وَذلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ أَمَارَةِ الإِبَاحَةِ عَلَى أَمَارَةِ الْحُرْمَةِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هذَا التَّرْجِيحَ بَاطِلٌ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي -وَهُوَ تَعَادُلُ الأَمَارَتَينِ فِي فِعْلَينِ مُتَنَاقِضَينِ، وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ-: فَهذَا
===
قولُهُ: "لأنَّه لو تعادَلَتْ أمارتانِ علَى كوْنِ هذا الفعْلِ مُبَاحًا حَرَامًا: فأما أنْ يُعْمَلَ بهما معًا أو يتركا أو تُرَجْحُ إحداهما على الأُخْرَى، أو يُحْكَم فيهما بالتخيير: والأَوْلُ باطلٌ, لأنه يوجِبُ الجَمْعَ بَينَ النَّقِيضَينِ. والثَّاني أيضًا: باطلٌ؛ لأنه لما تعذَّر العَمَلُ بهما جميعًا، كان وضعهما عَبَثًا، وهو مُحَالٌ على الله تعالى. والثالث: باطلٌ؛ لأنَّه يقتضي الترجيحَ مِنْ غَيرِ مرجِّح، وهو محالٌ.
والرَّابُعِ: بَاطِلٌ؛ لأنَّهُ يقتضي حصُولَ التخْييرِ بَينَ الفعْلِ والتَّركِ، وذلك ترجيح أَمَارَةِ الإباحَةِ على أمارة الحُرْمَة، وقد ثَبَتَ أَنَّ هذا الترجيحَ باطلٌ":
والاعتراضُ عليهِ مِنْ وَجْهَينِ:
أحدهما: اختيار القِسْمِ الثانِي، وهو التَّرْكُ لهما، أو التساقُطُ والرجُوعُ إلى الأَصْلِ؛ كما صار إليه بَعْضُ الفُقَهَاءِ.
قوله: "إِنْ نَصَبَهَما عَلَى هذا التقديرِ يَكُونُ عَبَثًا":
قلْنا: لا نُسَلِّم، ولمَ قُلْتَ: إِنه يلزم مِنْ عَدَمِ اطْلاعِنَا علَى حِكْمَةٍ في النَّصْبِ - انتفاءُ الحكْمَةِ في نفْس الأَمْر، وأَيُّ مانِعٍ من اشتماله علَى حِكْمَةٍ استأثر الله بها، وهذا إذا سلَّمنا أنَّ مِثْلَ هذا يقالُ: إِنه عَبَثٌ، وقد عرفَ من أصول الأَشْعريَّة أنهم لا يُوقِفُونَ أحكام الله تعالى ولا أفْعَالهُ علَى مَصَالِحِ العبَادِ، وإنَّما هو مذهَبُ المُعْتَزِلَة.
الوجْهُ الثاني: اخْتِيَارُ القِسْمِ الرابعِ، وهو التخييرُ؛ كما صار إلَيه القاضِي.
قوله: "إنه يقتضي حُصُولَ التخيير بَينَ الفِعْل والتَّرْكِ وذلك يقتضي ترجيح أمارة الإبَاحَةِ": قلنا: لا نسلم أن التخييرَ في العمل بأحد الأمارتين، تخيير بين الترك والفعل وإن أخذ بأَمَارَةِ الحرمة لم يكن مُخَيَّرًا بين الفعل والتَّركِ؛ لاختلافِ متعلِّقَي التخييرِ وحكمهما، فإن أخذ بأمارةِ الإبَاحَةِ - كانَ مُخَيَّرًا بين الفعْلِ والترك؛ بَلْ كان ممنوعًا من الفعْلِ علَى هذا التقديرِ؛ وهذا كتَخْيِيرِ المسافِرِ بَينَ الأَخْذِ بدليلِ الرخْصَةِ والاقتصارِ على رَكْعَتَينِ، وبَينَ الأَخْذِ بدليلِ العَزيمَةِ والتزامِ الأَرْبَعِ؛ وكقَوْلِ مَنْ له على غَيرِه أربَعَةُ دراهِمَ معيَّنة: وَهَبْتُكَ مِنْهَا دِرْهَمَينِ، فإن قبلت، فأنا مطالبٌ لك بدِرْهَمَينِ، وإن لم تقبل، فأنا مُطَالبٌ لك بأَرْبَعَةٍ.
قوله: "وأما القِسْمُ الثاني، وهو تَعَادُلُ الأمارتينِ في فِعْلَينِ متناقِضَينِ والحُكْمُ واحدٌ - فهو جائزٌ، ومقتضاه التخييرُ ... ":