. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أَوَّلًا: أما الآيةُ، فمقيَّدةٌ بالمُنَزَّلِ، وَنَحن نقولُ بِهِ، وَلَيسَ هُو مَحلَّ النِّزَاعِ.
وَأَمَّا الحديثُ فمحْمُولٌ عَلى ما أَجْمَعُوا عَلَيهِ، وَمَا أجْمَعُوا عَليهِ فهو حَقٌّ، وأمَّا مسألةُ الحَمَّامِ وَشُربِ الماءِ؛ فإنْ تحقَّقَ إجماعٌ أَو جَرَى فِي عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَ عِلْمِهِ وتقريرِهِ - فهو حُجَّةٌ.
وأمَّا تفصيلُ الأقْسَامِ المذكورةِ، فنقولُ: أما اتِّبَاعُ الخَبَرِ الصحيحِ وَتقدِيمه عَلى القياسِ -فواجبٌ عِنْدَنَا. وأبو حنيفةَ لَمْ يُقِرَّ بِه فِي مسألةِ الْمُصَرَّاةِ والعَرَايَا وخِيَارِ المَجْلِسِ، ولَمْ يَسْتَحْسِنُوا - معاشِرَ الحنفيَّةِ - هذِهِ الأحاديثَ مَعَ اتِّفَاقِ أَئمةِ الحديثِ عَلى صِحَّتِها وضعفِ حديث القهقهةِ وَخَبَرِ ابن مسعودٍ.
وَأَمَّا قولُ الصحابيِّ إِذا خالفَ القياسَ؛ فَقَدْ قال بهِ الشَّافعيُّ فِي القديم، فمن الْتَزَمَهُ، وَجَبَ عليه طَرْدُهُ؛ لكنَّ الحنفِيَّ لَمْ يَطْرُدْ ذلِكَ فِي مسألةِ تغليظِ الدِّيَةِ مَعَ ما نُقِل فيهِ عَنِ الصحابةِ، واعتمادُهُ عَلى تقدير ابْنِ عبَّاسٍ أُجْرَةَ رَدِّ الآبِقِ بأَربعينَ، وَهِيَ واقعةُ عَينٍ تحتملُ أَنْ تكونَ أجرةَ مِثل تِلْكَ الواقعةِ، أو لحُكْمِ مصالحةٍ.
وَقَولُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيهِ التفاتٌ إِلَى تغليبِ ضمانِ النَّفْسِيَّةِ على الماليَّةِ، وَمُراعاةِ النفسيَّةِ، وَإِظهار شَرَفِ الحُرِّ بحطّ قَدْرٍ مِنَ المالِ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُو ما يقطعُ فِيهِ السارِقُ، وَهُوَ دينارٌ فِي هَذَا الرَّأْي أَوْ عَشَرَةُ دراهِمَ، وَهَذا كُلَّهُ قِياس، فلم نقلْ بِهِ لمجرَّدِ قولِ الصحابِيِّ. نَعَم: يَصْلُحُ قول الصحابيِّ مُرَجِّحًا؛ لاعتبارِ العملِ بقياسِ ضمانِ النفسيَّةِ على قياسِ اعتبارِ المَاليَّةِ.
وأمَّا دعوى عَمَلِ النَّاسَ بالمعاطاةِ فِي الأعْصَارِ، فلا يصحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ؛ وَإِنَّما الْعِبْرَةُ باتفاقِ العلماءِ؛ فإنَّا نعلمُ أَنَّ العقودَ الفاسدةَ والرِّبَويَّاتِ الآن أكْثَرُ مِنْهَا فِي ابتداءِ الإسْلَامِ، وعَوَامُّ الناسِ لا مُبَالاةَ بإجماعِهم.
وَأَمَّا اتباعُ المعْنَى الخَفِيِّ، إِذَا كانَ أخصَّ فيساعِدُ عليه؛ لأَنَّ الحكمَ الذِي لا يَمَسُّ المقصودَ بَاطلٌ مَعَهُ، إلا أَنَّ أَبا حنيفةَ لَمْ يَفِ بِهِ حيثُ ظنَّ أَنَّ مِنْهُ إِيجَابَ الحَدِّ فِي الزِّنَا بشهادَةِ أَرْبَعَةٍ شهد كلُّ واحدٍ بأَنَّه زَنَا بِهَا فِي زاويةٍ؛ فإِنَّ القياسَ سقوطُ الحدِّ؛ كَما لَوْ أَضافُوا الزِّنَا إِلَى أَربعةِ أَوْقَاتٍ، وَلكنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ.
وَقَال: لعلَّهُ كانَ يزحفُ بِها فِي زَنْيَةٍ واحدةٍ، وَأَيُّ اسْتحسانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امرئٍ مُسْلِمٍ بمِثل هذَا، مَعَ أَنَّ مَبْنَى الحُدُودِ عَلى السُّقُوطِ بالشبهاتِ.
وَالحَاصِلُ أَنَّ أكثَر ما يُفَسِّرونَ بهِ الاستحسانَ، فَنَحْنُ نقولُ بحسنِهِ، ونُنَازِعُهُمْ فِي أنَّ ما صَارُوا إِليه فِي الفروع منه، وإنْ ساعَدْنَاهُمْ عليه، كان الخلافُ لفظيًّا. والمحذورُ مِنَ الاستحسانِ ما يَرْجِعُ إِلَى مَحْضِ ميل النفْسِ، وما يَسْتَحْسِنُهُ العاقلُ بعَقْلِهِ مِنْ غير استنادِهِ إِلَى دليلٍ، فهو شارع تَحْقِيقًا؛ لأنَّهُ افتتح أَمْرًا لا مستَنَدَ له فِي الشَّرعِ، مع أَنَّ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النَّبِييِّنَ. وإِنْ كان ما سَمَّاه استحسانًا يستند إلَى دليلٍ شرعيٍّ، فهذا لا نزاعَ فيه.