للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جميعاً، فالكذبُ فيه حرامٌ، لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجبٌ إن كان المقصود واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه، وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيره وديعة وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالمُ قهراً، وجبَ ضمانُها على المُودع المُخبر، ولو استحلفَه عليها، لزمَه أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورّ، حنثَ على الأصحّ، وقيل لا يحنثُ، وكذلك لو كان مقصودُ حَرْبٍ، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلّه أن يورّي، ومعنى التورية أن يقصدَ بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ.

ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارةَ الكذب، فليس بحرام في هذا الموضع.

قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كل ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي له، مثلُ أن يأخذَه ظالمٌ، ويسألَه عن ماله ليأخذَه، فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ الله تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها ويقول ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً.

وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار.

وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَلَ عن سرّ أخيه فينكرَهُ ونحو ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدّ ضرراً، فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكّ، حَرُمَ عليه الكذبُ، ومتى جازَ الكذبُ، فإن كان المبيحُ غرضاً يتعلّقُ بنفسه، فيستحبّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقاً بغيره، لم تجز المسامحةُ بحقّ غيره، والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ، إلا إذا كان واجباً.

واعلم أن مذهبَ أهل السنّة أن الكذبَ هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو، سواء تعمدتَ ذلك أم جهلته، لكن لا يأثمُ في الجهل، وإنما يأثمُ في العمد.

١١٤٤ - ودليلُ أصحابنا تقييد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) " مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ ".


(١) وهو حديث صحيح متواتر، وقد جمع الطبراني طرقه في جزء، وهو ضمن مجموع في مخطوطات دار الكتب الظاهرية.
(*)

<<  <   >  >>