فتنفرُ منه وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيّئته، فإنَّ الشيطانَ قد يقرِّبُ إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس، ويُلقي إليه: أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبّهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطقٌ بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرَكَ عدلٌ بذلك، فلا تُصدِّقه ولا تكذبه لئلا تسئ الظنّ بأحدهما، ومهما خطرَ لك سوءٌ في مسلمٍ، فزِدْ في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يُغيظُ الشيطانَ ويدفعُه عنك فلا يُلقي إليك مثلَه خِيفةً من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفتَ هفوةَ مسلم بحجّةٍ لا شكّ فيها، فالصحه في السرّ، ولا يخدعنَّك الشيطانُ فيدعوك إلى اغتيابِه، وإذا وعظتَهُ فلا تعِظْه وأنت مسرورٌ باطّلاعِك على نقصِه فينظرُ إليك بعين التعظيم وتنظرُ إليه بالاستصغار، ولكن اقصدْ تخليصَه من الإِثم وأنت حزينٌ كما تحزنُ على نفسك إذا دخلَك نقصٌ، وينبغي أن يكون تركُه لذلك النقص بغير وعظك أحبّ إليك من تركه بوعظك، هذا كلام الغزالي.
قلت: قد ذكرنا أنه يجبُ عليه إذا عرضَ له خاطرٌ بسوء الظن أن يقطعَه، وهذا إذا لم تدعُ إلى الفكر في ذلك مصلحةٌ شرعية، فإذا دعتْ جازَ الفكرُ في نقيصته والتنقيب عنها كما في جرح الشهود والرواة وغير ذلك مما ذكرناه في " باب ما يباح من الغيبة ".
(بابُ كَفَّارةِ الغيْبةِ والتَّوْبَةِ منها)
اعلم أن كلَّ من ارتكب معصيةً لزمه المبادرةُ إلى التوبة منها، والتوبةُ من حقوق الله
تعالى يُشترط فيها ثلاثة أشياء: أن يُقلع عن المعصية في الحال، وأن يندمَ على فعلها، وأن يَعزِمَ ألاّ يعود إليها.
والتوبةُ من حقوق الآدميين يُشترط فيها هذه الثلاثة، ورابع: وهو ردّ الظلامة إلى صاحبها أو طلب عفوه عنها والإِبراء منها، فيجبُ على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حقّ آدمي، ولا بدّ من استحلاله مَن اغتابَه، وهل يكفيه أن يقول: قد اغتبتُك فاجعلني في حلّ، أم لا بُدَّ أن يبيّنَ ما اغتابه به؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي رحمهم الله: أحدهما يُشترط بيانُه، فإن أبرأه من غير بيانه، لم يصحّ، كما لو أبرأه عن مال مجهول.
والثاني لا يُشترط، لأن هذا مما يُتسامحُ فيه، فلا يُشترط علمه، بخلاف المال، والأوّل أظهرُ، لأن الإِنسانََ قد يسمحُ بالعفو عن غيبة دونَ غِيبة، فإن كان صاحبُ الغيبةِ ميّتاً أو غائباً فقد تعذّرَ تحصيلُ البراءة منها، لكن قال العلماء: ينبغي أن يُكثرَ من الاستغفار له والدعاء ويُكثر من الحسنات.