للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن الشخصية (أو الهوية) ، كما أسلفنا، هي بنية مركبة، نتاج تَفاعُل بين مجموعة من البشر ومُركَّب من الظروف التاريخية والبيئية الثابتة على مدى زمني معقول، وهو الأمر الذي لم يتوفر إلا للعبرانيين، ولم يتوفر للجماعات اليهودية التي انتشرت في بقاع الأرض المختلفة وعاشت تحت ظروف اجتماعية مختلفة. ولذا، نرى أنه يجب الابتعاد عن التعميم المتعسف والكف عن استخدام صيغة «الشخصية اليهودية» لنتحدث بدلاً من ذلك عن «الشخصيات اليهودية» و «الهويات اليهودية» . وصيغة الجمع لا تنكر الخصوصيات اليهودية، ولكنها لا تجمع بينها وكأن هناك صفة جوهرية أو عالمية كامنة في كل اليهود. ومن هنا، يمكننا أن نتحدث عن الشخصية (أو الهوية) اليمنية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أو الشخصية الخَزَرية اليهودية في القرن التاسع، أو الشخصية الإشكنازية في إسرائيل، أو الشخصية السفاردية من أصل سوري في أمريكا اللاتينية. ويمكن دراسة تَطوُّر هذه الشخصيات اليهودية المتنوعة والمختلفة بدراسة سماتها المُستمَدة من أزمنة وأمكنة مختلفة. وفي هذه الحالة، سنكتشف أن حب النكتة ليس خاصية لصيقة بالشخصية اليهودية. فالفقه اليهودي (حتى القرن التاسع عشر) يُحرِّم النكات، كما أن هجاء الحاخامات أمر لم يكن مسموحاً به. ونجد أن حب النكتة هذا ظاهرة مقصورة على يهود أوربا في القرن التاسع عشر ومرتبط بضعف مؤسساتهم الدينية والاجتماعية. ولم يكن الحس النقدي ولا المستوى العلمي الرفيع معروفاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا حتى القرن الثامن عشر، إذ حرَّمت قيادتها الدينية قراءة كتب الفلاسفة اليهود ودواوين الشعر العبري الدنيوي، كما حرَّمت دراسة اللغات الأجنبية ودراسة الرياضيات والجغرافيا والتاريخ ولم تستثن من ذلك تواريخ الجماعات اليهودية. وكان الجهل بالجغرافيا عميقاً إلى درجة أن الحاخامات كانوا عاجزين عن تحديد اتجاه القدس. ولكن، مع دَمْج اليهود في الحضارة

<<  <  ج: ص:  >  >>