للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ ـ تحددت الهويات اليهودية المختلفة في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوُّع هائل في الهويات اليهودية. وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبيّ عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية. ومع هذا، فقد استمر الجميع (اليهود وغير اليهود) في الحديث عن اليهود كما لو كانوا كلاًّ واحداً.

لكل هذا، ظهر ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» للهويات اليهودية. وفي حديثنا عن النسق الديني اليهودي، نشير إلى أنه ليس كلاًّ واحداً يتسم بقدر من الاتساق، وإنما هو عبارة عن تركيب جيولوجي تراكمي مُكوَّن من طبقات تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلغ كل طبقة جديدة ما قبلها. وقد تكون هذه الطبقات متشابهة أو متناقضة، ولكنها مع هذا تعيش متجاورةً ومتزامنة وغير متفاعلة، وسُمِّيت كل هذه الطبقات «النسق الديني اليهودي» .

ويمكننا أن نقول إن الهويات اليهودية أيضاً تركيب جيولوجي تراكمي ولكنه لم يكن ملحوظاً بسبب انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجودهم في أماكن متفرقة من العالم. فيهود اليديشية نتاج مجتمعاتهم، وكذا يهود اليمن ويهود فرنسا، وهكذا. ومع ذلك، كان يُشار إليهم جميعاً باسم «الشعب اليهودي» ، مع افتراض وجود وحدة ما دون أن يختبر أحد مدى صدق هذه المقولة. ولكنها حين وُضعت موضع الاختبار، بعد تأسيس الدولة الصهيونية، ظهرت الخاصية الجيولوجية التراكمية، وتفجرت قضية من هو اليهودي تعبيراً عن اكتشاف أن ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» ليست كلاًّ يتسم بقدر من التجانس وإنما هي في واقع الأمر تركيب جيولوجي تراكمي. وقد أظهرت مجتمعات كلٍّ من أمريكا اللاتينية وجبال القوقاز هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية في الهويات اليهودية بشكل واضح.

<<  <  ج: ص:  >  >>