والمتتالية في رأينا ليست دقيقة وليست حتمية، فعملية الترشيد التي تتم داخل إطار توحيدي وداخل إطار المرجعية المتجاوزة تظل محكومة بالإيمان بالإله الواحد المتجاوز لعالم الطبيعة والتاريخ، ولذا نجد أن التوحيد يصر على الرؤية الثنائية ويبرز الفروق بين النسبي والمطلق وبين الإنسان الطبيعي والإنسان الرباني (الجسد والروح ـ الدنيا والآخرة ـ الأرض والسماء) ولا يسقط في أية واحدية روحية أو مادية. وإذا كان الترشيد هو رد كل شيء إلى مبدأ واحد، فإن هذا يعني ببساطة أن المبدأ العام الذي سيُردُّ إليه الكون في الإطار التوحيدي هو الإله المتجاوز للطبيعة/المادة، وهو مبدأ يؤكد وجود مسافة بين الخالق والمخلوق ينطوي على الثنائية الفضفاضة وعلى التركيب. وهو مبدأ يمنح الواقع قدراً عالياً من الوحدة ولكنها وحدة ليست واحدية مصمتة، ولذا فهي لا تَجبُّ التنوع والتدافع. وعلى هذا، فإن عملية الترشيد في الإطار التوحيدي لن تسقط في واحدية اختزالية لأن التجريد مهما بلغ مقداره لا يستطيع أن يصل إلى الواحد العلي المتجاوز (فهو بطبيعته متجاوز للطبيعة/المادة) ، ولذا لا يمكن الوصول إلى قمة الهرم والالتصاق بالإله والتوحُّد معه والتربع معه على قمة الهرم، ومن ثم يستحيل التجسد ويستحيل أن يفقد العالم هرميته ويستحيل أن تُختزَل المسافة بين الخالق والمخلوق، وأن يحل الكمون محل التجاوز. ولهذا يظل التواصل بين الخالق والمخلوق من خلال رسالة يرسلها الإله تتضمن منظومة معرفية وأخلاقية مطلقة متجاوزة للطبيعة/المادة. ومن ثم، يظل الترشيد ترشيداً تقليدياً يدور داخل إطار المطلقات التي أرسلها الإله المتجاوز، ويظل الواقع مركباً يحتوي على الغيب ويسري فيه قدر من القداسة، ويظل الإنسان مُستخلَفاً يعيش في ثنائية الروح والجسد لا في الواحدية المادية، وهي ثنائية تشير إلى الثنائية التوحيدية النهائية: ثنائية الخالق والمخلوق.