٤ ـ والواقع أن مجتمع الولايات المتحدة، رغم أنه مجتمع يتباهى بالتعددية والتنوع والانفتاح، يؤدي في نهاية الأمر إلى طمس معالم الهويات المختلفة ودمجها في هوية علمانية ديموقراطية واحدة، فهذا المجتمع تسوده أسطورة علمانية واحدة، ومعيار قبول اجتماعي علماني عقلاني يسمح للجميع بالانتماء شريطة أن يتخلوا عن خصوصيتهم، أي عن القسط الأكبر من هويتهم. وكلما ازداد تخليهم عن هويتهم ازدادت أمامهم فرص الحراك الجتماعي. فما يسود المجتمع ليس تنوعية حقة وإنما وحدة عقلانية علمانية عميقة وتنوعية إثنية سطحية، وهذا ما يُسمَّى «الأمركة» . وقد تُرجمت هذه الأفكار إلى فكرة بوتقة الصهر التي تفترض إنساناً أمريكياً علمانياً ديموقراطياً ذا ثقافة بروتستانتية يتحدث الإنجليزية، وهي فكرة سادت في المجتمع الأمريكي حتى منتصف الستينيات حيث كان يُفترض أن يتأقلم المهاجر تماماً وينسى هويته ليصبح أمريكياً قلباً وإن أمكن قالباً أيضاً. ومن هنا، كانت هناك مشكلة السود الذين لم يكن بوسعهم تغيير لون جلدهم. وحينما انحسرت أسطورة بوتقة الصهر، حلّت محلها أسطورة أكثر تركيباً وإن كانت لا تقل عنها أحادية، إذ أصبح بالإمكان الاحتفاظ بالميراث الإثني القديم في الحياة الخاصة أو حتى العامة مادام ذلك لا يتعارض مع الولاء الأساسي للدولة (ذلك المطلق الذي يلتف حوله العلمانيون) . وهكذا، تُعامَل الإثنية نفسها معاملة الدين، أي يتم الاعتراف بها ما دامت أمراً خاصاً تماماً. كما أصبح الدين من المسائل الخاصة بالضمير، لكن كلاهما لا يصلح أن يكون دليلاً أو أساساً أو إطاراً لسلوك الإنسان في الحياة العامة (فأخلاق المواطن المدنية هي وحدها الأساس والإطار والدليل) . وكل هذا يعني، في واقع الأمر، طمس كل الهويات والخصوصيات لتحل محلها هوية قومية واحدة. وعلى أية حال، لا تستطيع الدولة القومية الموحدة أن تمارس نشاطها كاملاً إلا بالسيطرة على معظم أشكال الحياة العامة