ورغم هذه الديباجات، ومع أن هناك بعض ملامح خصوصية بل متفردة في الصهيونية، فإنها في تصوُّرنا ليست حركة عالمية، فهي ليست ثمرة تفاعل حركيات عالمية على مستوى التاريخ العالمي وإنما ثمرة قوى حضارية وسياسية واجتماعية داخل التشكيل الحضاري الغربي. بل نذهب إلى أن الصهيونية إشكالية كامنة داخل الحضارة الغربية ولا يمكن فهمها بمعزل عن سياق هذه الحضارة وتياراتها الفكرية والقوى السياسية والاجتماعية التي تعتمل فيها والإشكاليات الكبرى التي تواجهها. ولعل معظم الناس يسمونها «صهيونية عالمية» لأنها أطلقت على نفسها هذا الاسم، ولأنه حدث ترادف كامل في عقول معظم الناس بين ما هو غربي وما هو عالمي.
ولكل هذا، فإن تاريخ الصهيونية هو بالدرجة الأولى جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية، ولا يمكن فهمه خارج حركيات هذا التاريخ. وسنستخدم الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كوحدة تحليلية تبسيطية أساسية نقدم من خلالها تاريخ الصهيونية. ولنا أن نلاحظ أن التاريخ الذي نقدمه من خلال الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة مرتبط تماماً بتاريخ تحوُّل الجماعات اليهودية في الغرب إلى جماعات وظيفية وبفقدانها هذا الدور في عصر النهضة. وهو الأمر الذي أدَّى إلى تصاعد حمى معاداة اليهود وتزايد وتيرة الدعوة الصهيونية بين غير اليهود ثم بين اليهود، فهو إطار تاريخي عام ينتظم تاريخ الغرب وتاريخ الصهيونية بين غير اليهود واليهود وتاريخ معاداة اليهود. ونحن نصر دائماً على ما نسميه «نظرية الصهيونيتين» ، أي أن هناك صهيونيتين، واحدة توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ رؤيتها وتاريخها ومصالحها وجماهيرها، ولكنهما تحالفا بعد صدور وعد بلفور. ولكن، رغم هذا التحالف، فإن كل صهيونية لا تزال محتفظة بتوجُّهها ومقاصدها وجماهيرها.