للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا الإطار، تمت كتابة هذه الأعمال الأدبية التي لا تتمتع بقيمة أدبية كبيرة، فهي ذات قيمة تاريخية أو حتى ذات قيمة تأريخية محضة، وتصف المشاريع الاستيطانية الصهيونية بشكل خيالي. وتسمي المراجع الصهيونية هذه الأعمال باليوتوبيات (جمع «يوتوبيا» أي المدينة الفاضلة) وهي اسم على غير مسمَّى للأسباب التالية:

١ ـ تأخذ العديد من تلك الكتابات شكل البرنامج التفصيلي العملي المحدد، فهي مشروع استيطاني لا يختلف كثيراً عن تلك المشاريع التي تم وضعها موضع التنفيذ بالفعل، أما العنصر الخيالي فهو ينصرف إلى بعض التفاصيل وحسب. ولعل هذا هو الذي دفع هرتزل لأن يقول: "أستطيع أن أؤكد أن ما نراه ليس يوتوبيا. لقد ظهرت العديد من اليوتوبيات قبل بعد توماس مور، لكن لم يفكر أي شخص عقلاني منطقي في وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ، إنها أفكار مسلية لكنها ليست عملية". وقد وضع هرتزل يده على جانب مهم من الحقيقة، وهو حرفية ما يُسمَّى باليوتوبيات الصهيونية، إذ أدرك أن هذه اليوتوبيات لا علاقة لها بعالم الحلم المتجاوز وإنما تضرب بجذورها في أرض المشروعات المادية الصلبة. أما الجانب الذي فشل هرتزل في إدراكه، فهو أن يوتوبيا سير توماس مور ليست مسلية وإنما هي عمل فني واع بمثاليته المتجاوزة، واع بأن المدينة الفاضلة بطبيعتها يستحيل تنفيذها، وإنما هي صورة مجازية، شكل من أشكال المجاز، يحاول الكاتب عن طريقها التعبير عن تطلُّع إنساني إلى عالم من المثاليات يتجاوز عالم المادة والحسابات الضيقة والتي يعرف الكاتب مسبقاً أنها مثاليات. ومن هنا نبرته المتهكمة أحياناً، ومن هنا إصراره على تقديم هذا العالم باعتباره عالماً مثالياً، فهو ليس فردوساً أرضياً، وإنما فردوس قلبي يعبِّر عن شيء أزلي في الإنسان، وهذا ما فشل هرتزل (الصحفي النمساوي من الدرجة الثانية) في أن يدركه.

<<  <  ج: ص:  >  >>