ويمكن القول بأن كثيراً من عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة قد ظهرت في كراس بنسكر. ومن هنا أهميته في تاريخ الفكر الصهيوني، فقد أسقط المقولات الدينية التقليدية ونزع القداسة عن اليهود واقترح ربط المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً وعنصراً استيطانياً أبيض، أي أنه يقترح أن يتم الحل داخل التشكيل الاستعماري الغربي. بل يترك الباب مفتوحاً أمام الأشكال الصهيونية الأخرى (الصهيونية الإثنية الدينية وغيرها) ، ويضع يده على ضرورة وجود صهيونيتين؛ واحدة استيطانية والأخرى توطينية.
ومع هذا، ظلت صيغة بنسكر مترددة متعثرة، ربما بسبب تكوينه الثقافي الضيق، فالأفق الثقافي في روسيا القيصرية كان ضيقاً إلى أقصى حد، وكان أكثر ضيقاً داخل المدن اليهودية ومواطن الاستيطان. ولذا، فإنه لم يكن لديه إدراك كامل لحتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية لوضع أي مشروع استيطاني موضع التنفيذ. فالمشروع الاستعماري الروسي لم يكن على استعداد لتوظيف اليهود لصالحه، بل كان يود التخلص منهم في أسرع وقت. كما أنه لم يكن مشروعاً عالمياً كما كان الحال في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، إذ أن المطامع الروسية القيصرية كانت تتجه نحو دول البلطيق والمناطق التي تفصل بين روسيا واليابان والصين والدولة العثمانية. أما فلسطين فقد كان الروس ينظرون إليها باعتبارها منطقة نفوذ أرثوذكسية، وهو ما يتطلب استبعاد اليهود. ولذا، فرغم أن كل أفكار هرتزل الأساسية موجودة في الانعتاق الذاتي إلا أن هرتزل قد حقق ما لم يحققه بنسكر لأنه كان مدركاً لحتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية باعتبارها الآلية الوحيدة لتحقيق الحلم الصهيوني.