وأتى في قَوْلِهِ:{يُؤْمِنُونَ} بالفعل المضارع الدالِّ على الاستمرار، إشَارَةً إلَى أنهم تلَقَّوْه عن قَبُولٍ وإذعانٍ، وأنهم ما زالوا عَلَى هَذَا الأَمر.
وهذه الجُملة بالنِّسبة لمَا قَبلَهَا في المَعنَى كأنّها إقامةُ دَليل عَلَى الذين كَذَّبوا بالقُرْآن، كَأنَّه يَقول: الذين أُوتوا الكتابَ مِن قبلكم آمنوا بالقُرْآن، ممَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه حق؛ لأنَّهُم مَعَ أَنَّهم أهلُ كتاب ترَكوا كتابهم، وآمَنُوا بالقُرْآن، وأنتم أهلُ جهل، وليس لديكم كتابٌ؛ فكان حَقًّا عليكم أن تكونوا قَبلهم في الإِيمَان؛ لأَنَّه مِنَ الصعب أن ينتقل الإنسَان مِن كتابه، أو مِن دِينِه إلى دِينٍ آخَرَ، لكن ليس مِن الصعب أَنَّ الإنسَانَ ينتقل مِن جهل إلى حقٍّ وعِلم.
ثم إِنَّ فيه أَيْضًا تَأْنِيبًا لهؤُلاءِ، وَفِيه أَيْضًا دَليل عَلَى أَنَّه حَقٌّ؛ لأن الَّذينَ أُوتوا الكتابَ ما آمنوا به إلا عن عِلم، وَهُوَ كَذَلكَ؛ فإنه لَا شَكَّ أَنَّ النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مكتوبًا عند بَني إسرَائيلَ في التَّوراة والإنجيل، كَمَا قَالَ تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة: ١٤٦]، حتى أوصافه الخِلْقِيَّة موجودة عندهم، بِقَطْعِ النَّظر عن مِنهاجه وسِيرته، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: ١٥٧].
هذا كله موجودٌ في التَّورَاة والإنجيلِ ومعروفٌ، ولهذا تجمَّع اليهود في المدينة مِنْ أَجْلِ أَنْ يستقبلوا هذا النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، الذي وَجَدُوا صِفَتَه عندهم، ويُؤمِنون به، وكانوا كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}