للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالصَّبْر على الأَقْدَار أعظمُ، فقد يُصِيبك ما يؤلمك، لكنه شيء بغير اختيارك، أما المعاصي فَقَدْ ترَكْتَها باختيارك، تستطيع أن تفعَلَها، ولكنك ما فَعَلْتَ، أَمَّا البلاءُ، فلا تستطيع له دفعًا، فالصَّبْر والاستسلام للشرع أفضلُ مِنَ الاستسلام للقَدَر، الاستسلام للشرع هُوَ الَّذي يُمْدَح عليه الإِنْسَانُ، ويُثنَى عليه، لكن الاستسلام للقَدَرِ يتساوى فيه كُلُّ النَّاس، أَمَا تسمعُ قَوْلَ الشاعر الجَاهِلي (١):

وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ

وحتى الكُفَّار، فإنَّ أفعالَهم تُنْزِلُ بهم المصائبَ، وَلَكن لَا يَهْتَمُّ بها ويصبر، وهو كافِرٌ، ولا يَرْجُو بذلك الأجرَ والثوابَ.

وقد يَقولُ قَائِلٌ: الإنسَانُ قَدْ يَكون تمَرَّنَ على الطاعة، فصارت عليه سهلةً، ولكن المصائب لم يَتَمَرَّنْ عليها، فيجزع لذلك.

فنقول: لا، قد يَتَمَرَّنُ عليه إذَا أصيبَ في ابنٍ أَوْ في غيره، حتى العِبادة، مِثل الحَجِّ، لا يأتي إلا مَرَّة وَاحدَةً في العُمر، وَمَعَ ذَلكَ يُعْتَبَر صَبْرًا عَلَى الطَّاعَة مع مَشَقَّتِه البَدَنِيَّة، والمالية، والأمنية.

أما مسألةُ الوقوع، وعدمُ الوُقوع، فهذا شَيءٌ آخَرُ.

وهناك فَرقٌ بَينَ مَن يُكابِد الطاعة، ويجد في نَفْسِه مَشَقَّةً في مُعالجتها، وآخَرَ قد تَمَرَّنَ عليها، فصارت سهلةً عليه، فالأولُ أَشَقُّ عَمَلًا، والثَّاني أكملُ حالًا؛ لأن الطاعةَ صارت غَرِيزَةً مِن مَحَبَّتِه لها، وسُهولَتِها عليه، لكن الأول أَشَقُّ عملًا، فيُعطَى هذا أجرَ الكُمَّل، وذاك يُعطَى أجرَ الصابرين.


(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، كما في جمهرة أشعار العرب (ص ٥٣٦).

<<  <   >  >>