وكان يدخل ويخرج إلى الصبّاح، فلمَّا أصبحنا صاح النّاس: نُقِبَ دُكّان الصبَّاغ وسُرِقَت، فدخلوا المسجد ورأونا، فقال المَبْطُون: لا أدري، غير أن هذا طول اللّيل كان يدخل ويخرج، وما كنت خرجتُ إلّا مرَّةً تطهّرتُ، فجرُّوني وضربوني، وقالوا: تكلّم. فاعتقدت التّسليمَ، فكانوا يغتاظون من سُكُوتي، فحملوني إلى دُكّان الصّبّاغ، وكان أثَرُ رجل اللّصّ في الرّماد، فقالوا: ضَعْ رِجْلَك فيه، فوضعت، فكان على قدْر رِجْلي، فزادهم غَيْظًا، وجاء الأمير، ونُصِبَت القِدْر وفيها الزَّيت يغلي، وأُحْضِرَت السكّين ومَن يقطع اليد، فرجِعْت إلى نفسي وإذا هي ساكنة، فقلت: إن أرداوا قَطْعَ يدي سألتهم يعفوا يميني لأكتب بها، فبقي الأمير يهدّدني ويصْول، فنظرت إليه فعرفته، وكان مملوكًا لوالدي، فكلّمني بالعربية وكلّمته بالفارسيّة، فنظر إليّ وقال: أبو الحسين، وكنتُ أكنَّى بها في صِباي، فضحكتُ، فعرفني، فأخذ يلطم رأسه ووجهه، واشتغل النّاس به، فإذا بضجّة عظيمة، وأنّ اللَّصوص قد مُسِكُوا، فذهبتُ والنّاسُ ورائي، وأنا ملطَّخ بالدّماء، جائع، لي أيّام لا آكل، فرأتني عجوزٌ فقيرة، فقالت: أدخل إلينا، فدخلتُ ولم يرني الناس، وغسلت وجهي ويديّ، فإذا الأمير قد أقبل يطلبني. فدخل ومعه جماعة، وجرَّ من منطقته سِكّينًا، وحَلَفَ بالله وقال: إن أمسكني إنسان لأقتلنَّ نفسي، وضرب بيده رأسه ووجهه مائة صَفْعة، حتّى منعتُه أنا، ثم اعتذر، وجهَد بي أن أقبل شيئًا، فأَبَيْتُ، وهربت ليومي من المدينة، فحدّثت بعضَ المشايخ فقال: هذا عقوبة انفرادك، فما دخلتُ بلدًا فيه فقراء إلّا قصدتُهم.
وقال أبو عبيد الله بن باكَوَيْه: سألت أبا عبد الله بن خفيف، وقد سأله قاسم الإصْطَخَري عن الأشعريّ فقال: كنت مرّة بالبصرة جالسًا مع عمرو بن عَلُّويه على ساجة في سفينة نتذاكر في شيء، فإذا بأبي الحسن الأشعريّ قد عَبَر وسلَّم علينا وجلس، فقال: عبرت عليكم أمس في الجامع، فرأيتكم تتكلّمون في شيء عرفت الألفاظ ولم أعرف المَغْزَى، فأُحبّ أن تعيدوها عليّ. قلت: وفي أي شيء كنّا؟ قال: في سؤال إبراهيم -عليه السلام {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}[البقرة: ٢٦٠] وسؤال موسى {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك}[العراف: ١٤٣] . فقلت: نعم. قلت: إنَّ سؤال إبراهيم هو سؤال موسى، إلّا أنّ سؤال إبراهيم سؤال متمكِّن، وسؤال موسى سؤال صاحب غَلَبَةٍ وهَيَجَان، فكان تصريحًا، وكان سؤال إبراهيم تعريضًا، وذلك أنّه قال: أرني كيف تُحْيي الموتى، فأراه كيف المحيى ولم يره كيف