للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال مالك: لا أسمع للبحر ذكراً، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست على ضفة بحر يأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلاً وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول -يعني إلى مكة- وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوى. لماذا؟ لأن الغالب السلامة، ولكن إذا كان الغالب الهلاك لسقط الحج، لمن لا يستطيع إلا بركوب البحر، أو بركوب جو مثله.

يقول: فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع.

أقول، وقل مثل هذا في ركوب الجو الطائرة مثلاً، فبعض الناس لا يطيقه ويحصل له ما يحصل لراكب البحر من الدوار وغيره، الذي لا يستطيع ركوب البحر يلحقه بذلك ألم شديد أو مرض مثلاً، قل مثل هذا في الجو، إذا كان لا يستطيع حينئذ يعذر، كمن لا يثبت على الراحلة، ولذا لم يقل أحد من أهل العلم أنه يلزم أن يشد على الراحلة حتى يصل، وليس معنى هذا أن يتساهل الناس يقولون: الطيران في الجو، ما الذي يمسكها؟ يمسكها الذي يمسك الطير، والغالب ولله الحمد السلامة، ما يحصل ولا واحد من ألف، وهذه النسبة ولو حصلت غير منظور إليها، ولذا يجب الحج بالاستطاعة، سواءً كان ماشياً أو راكباً على أي وسيلة مباحة كانت، استجابة لهذا النداء وامتداداً له، فرض الحج على هذه الأمة وشدد فيه حتى جعل ركناً من أركان الإسلام، يقول الله -جل وعلا-: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(٩٧) سورة آل عمران]، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج لمن استطاع إليه سبيلاً، وصوم رمضان)) متفق عليه.

فوجب على كل قادر أن يحج، فلبى المسلمون بتلبية نبيهم الذي لبى بالتوحيد، وسيأتي في ذكر بعض هذه الرحلات ما يناقض ويخالف هذا.