لكن من له عناية بالأدب تجده يشاهد، ربع ساعة فيكتب ما يقرأ في ساعة، وهذا موجود إلى وقتنا هذا، تجد من ينتسب إلى العلم من طبع له أكثر من مائة رحلة، وما زال يسافر ويكتب ويدون، فهي قدرات {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(٤) سورة الليل]، فمنهم من يتجه إلى القرآن وما يخدم القرآن ويكتب فيه ويصرف جل همه فيه، ونعم ما سلك، ومنهم من يصرف همته إلى السنة، ومنهم من ينصرف إلى الحلال والحرام، وغير ذلك من العلوم، ومنهم من يصرف نفسه -جهده ووقته- في القيل والقال، ومع الأسف أن هذا ملاحظ حتى في تلك الأماكن في تلك الأوقات الفاضلة تجد بعض طلاب العلم يذهب وقته سدى قيل، وقال، في اللغو والرفث، فمثل هذا عليه أن يرجع، أن يراجع نفسه، يسمع قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) وأربعة أيام لا يستطيع أن يملك نفسه، لماذا؟ لأن بقية وقته، وطيلة عمره في القيل والقال، ما تعرف على الله في الرخاء ليعرف في الشدة، على كل حال على طالب العلم أن يسلك الجادة، وأن يهتم بنفسه، وأن يحرص كل الحرص على اكتساب المغانم قبل فوات الأوان.
أقول: قليل من أهل العلم من سجل هذه الفوائد التي مرت عليه سواءً كانت منه أو من غيره في مدون على أن أكثر هذا القليل، الكثير من هذا القليل من الرحلات المدونة، عني كاتبوها فيه بذكر الآثار في بلاد الحرمين، وكثير منه لا يسلم من ابتداع، وهم يتفاوتون: منهم المبتدع البدعة المخففة، ومنهم من دون في رحلته البدع المغلظة.
من هذه الرحلات المدونة، بل من أقدمها: رحلة ابن جبير، وهو أبو الحسين، هذه رحلته، رحلة ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، أخذ القراءات وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريظ والكتابة.
ومن شعره أثناء رحلته يقول:
لا تغترب عن وطنٍ ... واذكر تصاريف النّوى
أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى
قال هذين البيتين لما رأى غصناً مال عن الشجرة فاصفر، هو الرحالة المشهور ويقول: