احتضار الدولة الأولى، أواخرها، من تحرك " تيمور لنك " مما وراء النهر واجتياحه بلاد الشام، وما صاحب ذلك كله من فتن شرسة حالقة، وما لابسه من انتعاش الصليبية بعد سحقها في عصر السلاطين الترك العظام: المظفر قطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون، وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد. لقد خلف الناصرَ ثمانية سلاطين من بنيه وأحفاده لم تتجاوز مدتهم جميعًا بضعًا وأربعين سنة - أي أقل من مدة سلطنة الملك الناصر وحده - أولهم المنصور سيف الدين أبو بكر بن الناصر محمد، لم يلبث سوى شهرين اثنين خُلِعَ بعدَهُما ونُفِيَ وإخوتُه إلى قوص في صفر سنة ٧٤٢ هـ وفيها قُتِلَ. فكان النذير الصادع بسنينَ مشئومة واحتضار بطيء لم يكد ينجو فيه أحد من أبناء الناصر وحفدته الذين تعاقبوا على السلطنة، من تعذيب ونفي وقتل. آخرهم " الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن الناصر محمد " بويع بعد مقتل أخيه " المنصور علي " في صفر سنة ٧٨٣ هـ، ثم خُلِعَ في شهر رمضان من السنة التالية وتولى السلطنة الملك الظاهر برقوق، أول المماليك الجراكسة، وكان قويًّا جلْدًا شجاعًا ذكيًّا مهيبًا، مرجوًّا لصد الموجة التترية الطارئة، لكنه شغل بفتنة وإلى الشام، وخُلِع في جمادى الآخرة من سنة ٧٩١ هـ ونفى إلى الكرك. إلى أن استرد السلطنة في سنة ٧٩٢ هـ بعد صراع ٍ دام ٍ مرير، وتيمورلنك قد اجتاح المماليك الشرقية وفعل الأفاعيل، والصليبيون يطئون ثغور الشام .. ورابط الظاهر برقوق في مصر متأهبًا لقتال، واقترض من تجارها وسُراتها ما جهز به عسكره " وكان السراج البلقيني يتقدم موكب العبماء في النفير لجهاد تيمورلنك ".
وتمت التعبئة وخرج السلطان إلى الشام في سنة ٧٩٣ هـ وفي صحبته شيخ الإِسلام السراج البلقيني والقضاة والأمراء. وكسر الصليبيين مرة بعد مرة، إلى أن مات - رحمه الله - في ليلة النصف من شوال سنة ٨٠١ هـ.
بعدها " استهلت سنة ٨٠٢ هـ وقد تحرك تيمورلنك إلى البلاد الشامية بعد أن غلب على ما وراءها وخرَّب ودمَّر، وقتل وذبح. ثم كانت الكائنة العظمى في سنة ٨٠٣: " أعطى الطاغية أهل دمشق أمانًا على أن يؤدوا له ألف تُومَان، قيمة كل تومان عشرة آلاف دينار. فلما قبضها استباح دمشق وما حولها من ديار الشام: دورَها ومتاعها وأموالها ونساءها وصبيانها. وعاث جنوده في الديار فسقًا ونهبًا وقتلاً وخرابًا. وأعلنت التعبئة العامة