للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في مصر للخروج إلى الشام، وبُسِطتْ أيدي الجُباة في أموال الناس، وعَمَّ ذلك في أموال اليتامى والأوقاف " (١).

وسُعار الفتن لا يخبو، وأفاعيل الصليبيين والتتار لا تفتر.

في تلك السنين الشداد، كان " السراج البلقيني " ملاذ الأمة في جوائح النوازل وعصيب الأزمات. وإذ كان مترجموه من شهود العصر ومؤرخيه، كابن حجر والتقي المقريزي وابن تغري بردي، يدونون الصفحات الغُرَّ في سيرته ومواهبه ومكانته وسجاياه ومناصبه، فإنهم في تأريخهم لأحداث العصر، لا تكاد تمر نازلة أو محنة إلا ذكروه فيها: مستشارًا مؤتمنًا ومفتيًا إمامًا، ودليلا للركب الساري بليل ٍ، لا يكذب أهله. فهو يلقانا في تاريخ العصر بموافقة المشهودة وسلطانه على ملوك الزمان، فتاويه المسددة في النوازل، صادعًا بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، أمينًا على شريعة الله تعالى في عباده، قائمًا في الدفاع عنهم من جور ظالم ٍ وجبروتِ متعسف. كان كما قال الحافظ ابن حجر: " شيخ الوقت وإمام الأئمة الأعلام، عَيْنَ أهل الإِسلام وعالمهم ومفتيهم ومعلمهم، عون الإِسلام وحجة الله تعالى على خلقه، يعولون عليه في كل المهمات الدينية، ولا يستغنون عنه في الأمور الدينية. يُفزع إليه في حل المشكلات وكشف المعضلات، بحيث لم يكن لسلطانٍ أن يعقد مجلسًا إلا به، ويقتدي برأيه ومشورته " لا يملك أن يحيد عنها (٢).

وقد امتُحن - رحمه الله - بأن ثكل ابنه البكر " بدرالدين أبا اليمن محمد " في سنة ٧٩١ هـ وهو في الحادية والأربعين من عمره. وكان أعجوبة في الذكاء والفطنة والسمت والنبل، مهر ودرَّس وتفوق في شبابه، وولي قضاء العسكر سنة ٧٧٩ هـ قبل أن يبلغ الثلاثين، ثم ولي الإفتاء في دار العدل. وكان أبوه معجبًا به، فحزن عليه أشد الحزن، ودفنه في مدرسته التي أنشأها مقابل مسكنه (٣) ثم تجلد الشيخ الثاكل للمصاب الفاجع، وتابع الرباط والجهاد في موقعه العلمي والاجتماعي والسياسي، لم يكل ولم يفتر " مواظبًا على دروسه ومواعيده بذهن صاف وقريحة ثاقبة، صادعًا بالحق على العهد به، عدوًّا لمن


(١) مستخلص بتضمين، من تاريخ مصر بعد الناصر إلى السنوات الأولى من القرن التاسع في: النجوم الزاهرة، وسلوك المقريزي، وإنباء الغمر لابن حجر.
(٢) المجمع المؤسس: ٢١٧، ونحوه في ذيل التذكرة لابن فهد.
(٣) بحارة بهاء الدين، وفيها (دار البلقيني) من معالم خطط القاهرة: (خطط المقريزي ٢/ ٥٢).

<<  <   >  >>