للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام من العرب، طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدم في ذلك إليّ، وأمرني ألا أقبل شيئًا سوى خصلة من هذه الثلاث الخصال.

وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده فقال: نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني، فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به.

فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود، وكلمني برفق؛ فإني أهاب سوادك، وإن اشتد علي كلامك ازددت لك هيبة، فتقدم إليه عبادة، فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سوادًا مني وأفظع منظرًا ولو رأيتهم لكنت أهيب "منك" (١) لي. وأنا قد وليت، وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي؛ وذلك إنما رغبتنا وبغيبتا الجهاد في الله تعالى، واتباع رضوان الله؛ وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا، ولا طلبًا للاستكثار منها؛ إلا أن الله قد أحل ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالًا، وما يبالي أحدنا: أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهمًا! لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها جوعته، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإنا كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده (٢) ؛ لأن نعيم الدنيا ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمر به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون


(١) من فتوح مصر.
(٢) بعدها في فتوح مصر: "ويبلغة ما كان في أيدينا".