شبَّه مرور موسى ويونس عليهما السلام بذلك الوادي في الماضي، بمرور يقع منهما في الحال بجامع التحقُّق، وكنى عن ذلك بقوله:"كأني أنظر ... "، لأنه إنما ينظر في الحال إليهما مارَّين، إذا كان مرورهما واقعًا في الحال.
فأما ما يُروى فيمن قال:"أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقيل له: ما حقيقة إيمانك؟ فقال: كأني أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا"(١) يُريد: يوم القيامة؛ فليس فيه كناية، [ص ٢٩] وإنما شبَّه حاله في تصديقه بأمور القيامة بحاله على فرض أنه ينظر إليها. فأمور القيامة ثابتة عند السائل، وإنما مقصود المسؤول إثبات إيمانه بها.
وأما مرور موسى ويونس عليهما السلام حاجَّين، فلم يكن ثابتًا عند المخاطبين، فمقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت المرور، لا تثبيت تصديقه بالمرور. فلهذا كان ما يظهر من الكلام من إثبات التصديق بالمرور كناية، على ما سمعت، والله أعلم.
فأما العبارة المشهورة:"كأنك بالدنيا لم تكن"، ففيها تشبيه مع الكناية ومجاز.
والأصل تشبيه ما يتوقع من زوال الدنيا بزوال واقع في الحال بجامع القرب والتحقُّق، وتشبيهها عند زوالها بها لو لم تُوجد أصلًا، بجامع عدم النفع. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإنَّ الرجل إذا عاش مدة، ثم مات، ولم يبق بعد موته نفعٌ يتسبَّب عن حياته= قيل كأنه لم يُخْلَق، لأنه لما خُلِق، وعاش
(١) أخرجه الطبراني في "الكبير" (٣٣٦٧) من حديث الحارث بن مالك الأنصاري. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١/ ٢٢١): "وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".