ولو رأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لَما أثنوا على عقبة، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرِّد بالمنكر، ولاسيَّما إذا كان مقلًّا غير مشهور. والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة، كما مرَّ في المسألة السابعة، وكما يأتي في المسألة الخامسة عشرة؛ فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث، مع ما في سنده من الاختلال، ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن؟ !
فإن قيل: وهل يحتمل معنى آخر؟
قلت: نعم، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصَدَ القتل، كالصور التي تقدَّم التمثيلُ بها من فضْخ الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه. ومنه ما يُتردَّد فيه أقصَد أم لم يقصِد؟ كمن أغضبه رفيقُه، وكان بيده فأس أو عصا كبيرة، فضرب رأسه، فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد، كمن ضرب رجلًا ضرباتٍ يسيرةً بسوط أو عصا خفيفةٍ فمات. فهذه ثلاثة أضرب.
وقوله في أول الحديث:«ألا إن دية الخطأ شبه العمد» مُخْرِجٌ للضرب الأول حتمًا، لأنه عمْدٌ محض لا يُعقل أن يسمَّى خطأً شبه العمد، فبقي الأخيران، والظاهر أنه شامل لهما. أما الثالث فواضح، وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبيَّن قصدُ القتل، فالأصل عدمُه. فقوله بعد ذلك:«ما كان بالسوط والعصا» حقُّه أن يكون تقييدًا لِيُخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح، لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل، وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى، فيقع التردد.