هذا، ولم يُرِد إبراهيم عليه السلام بقوله:"هذا ربي" ربَّ العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب: إن أرواح الملائكة متعلقةٌ بها، مدبِّرةٌ بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعة إليه، ولما رأوا أن الكواكب لا تكون ظاهرةً أبدًا اتخذوا الأصنام تذكاراتٍ لها ولأرواحها. وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب تقربًا إلى تلك الأرواح، ويقولون: إن الله ربُّ الأرباب وإلهُ الآلهة. وقد أوضحتُ هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار التاريخية والمقالات في كتاب "العبادة" ولله الحمد.
وعلى كل حال، فتلك الكلمات إنْ ترجَّحَ أنها داخلةٌ فيما يسمَّى كذبًا، فهي من أخفِّ ذلك وأهوَنِه. ولنبيِّنْ ذلك في إحداها:
دخل إبراهيم ومعه امرأته (سارة) بلدًا كان ملكه جبارًا، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها، فإن كان لها زوج بطش به. فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم، فسأله عنها، فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به؛ وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: هي أختي، وأراد الأخوة الدينية. فإطلاق أخ وأخت في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى. ومع ذلك فهناك قرينة من شأنها إذا تنبَّه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج مَن وقع في مثلها إلى التورية وإيهام خلاف الواقع، ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة. فقد يقال: إن هذه الحال إذا نُظِر إليها على هذا الوجه ولوحظ أن الخبر محتمل احتمالًا قريبًا لغير ظاهره، صار الخبرُ مجملًا محتملًا لكلٍّ من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذبًا. لكن قد يَرِد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن