فأبو حنيفة يقول: يعيِّن الزوج والقاضي، ومخالفوه يقولون: الزوج والقاضي منهيَّان عن الميل وعن كل ما يظهر منه الميل، ولا ريب أن تعيينهما برأيهما ميلٌ، أو يظهر منه الميل، والأصل في ذلك التحريم. فإباحتُه لهما مخالف للأصول والقياس، وفتحٌ لباب الهوى، ومنافٍ للحكمة. وإذا عيَّن الزوجُ برأيه إحدى امرأتيه ظنَّت الأخرى أنه إنما عيَّنها ميلًا إلى هواه، فحَزَنها ذلك، وأدَّى ذلك إلى مفاسد. وإذا عيَّن القاضي برأيه أحد النصفين لزيد، وكان بكرٌ يريده لنفسه، ظنَّ بكرٌ أن القاضي إنما مال مع هواه، وساءت ظنون الناس بالقاضي، وجرَّ ذلك إلى مفاسد.
فإن قال أبو حنيفة: فما المخلص؟ قالوا: قد بيَّنه الله تعالى ورسوله، وهو القرعة. فإن قال: القرعة قمار. قيل له: إنما تكون قمارًا في غير هذا الباب كما تقدم شرحه. وإذا صحَّ أن أبا حنيفة استحبَّ القرعة، فقد لزمه أنها ليست في هذا الباب بقمار وأنها مشروعة. وإذا اعترف بأنها مشروعة، فما بقي إلا أن يجب العمل بها، أو يجوز تركُها وجعلُ [٢/ ١٧٠] التعيين إلى الزوج والقاضي. والحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج والقاضي، لأنه فتحٌ لباب الميل كما تقدَّم، ولا ضرورة إليه ولا حاجة.
وقد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع، وبذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبهه.
قال الله تبارك وتعالى في قصة مريم:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى أن قال: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[آل عمران: ٣٧ - ٤٤].