المتكلم: النصوص التي نوافق على بطلان ظواهرها لا نسلِّم أنها في تلك المعاني صريحةٌ صراحةً مطلقةً أو ظاهرةٌ ظهورًا مطلقًا، كيف والقرينة قائمة على صرفها عنها، وهي العقل والإشارات التي ذُكرت في المقصد الثالث؟
الناقد: أما العقل، فقد زعم ابن سينا ــ كما مرَّ ــ أن عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون موافِقةٌ لتلك المعاني، فإن منعتَ هذا فنؤجل البحث فيه إلى المقصد الرابع، وإن سلَّمتَه بطلت دعواك هنا؛ فإن قانون الكلام أن تكون القرينة كاسمها مقترنة بالخطاب في ذهن المخاطَب أو بحيث إذا تدبَّرَ عرَفَها وعرَفَ صَرْفَها عن الظاهر؛ إذ المقصود من نصب القرينة أن يكون الخبر صدقًا من حقِّه أن لا يفهم المخاطَب منه خلافَ الواقع ما لم يقصِّر. وإذا كانت عقول الجمهور ــ ومنهم المخاطبون الأولون ــ توافق تلك الظواهر، وتجزم بوجوبها عقلًا أو جوازها، أو لا تشعر بامتناعها؛ فكيف يُعتَدُّ عليهم بما قد يدركه المتعمِّق في النظر بعد جهد جهيد؟ مع العلم بأنهم لم يعرفوا التعمق في النظر، ولا خالطوا متعمِّقًا؛ بل نهاهم الشرع عن ذلك.
وهل هذا إلا كما لو غزا جماعة إلى أرض بعيدة، ثم عادوا بعد مدة دون واحد، فسُئلوا عنه، فأَخبروا بأنه قُتِلَ، فحزن أهلُه، ثم قسموا تركته، واعتدَّتْ نساؤه، وتزوجن، إلى غير ذلك. ثم قدم رجل، فزعم أنه رأى ذلك الذي قيل: إنه قُتِل، رآه بعد خبر القتل بمدة في الثغر حيًّا صحيحًا. فافرِضْ أنه ذُكِر ذلك للمخبِرين بالقتل، فصدَّقوا هذا المخبِر الأخير، واعتذروا عن إخبارهم