وأخرج الترمذي (١) وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشدّ بلاءً؟ قال:"الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ هُوِّن عليه ... " الحديث. قال الترمذي:"حسن صحيح".
وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور. وابتلى يعقوب بفقد ولدَيْه وشدَّد أثر ذلك على قلبه، فكان كما قصَّه الله عز وجل في كتابه:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف: ٨٤].
وابتلى محمدًا عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة. فكلَّفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعًا [٢/ ١٩٢] لآبائهم من الشرك والضلال، ويُصارِحَهم بذلك سرًّا وجهارًا، ليلًا ونهارًا، ويدورَ عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم. فاستمرَّ على ذلك نحو ثلاثَ عشرة سنة، وهم يؤذونه أشدّ الأذى، مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذَى، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقَّرة، في بيتٍ شريف محترم موقَّر، ونشأ على أخلاقٍ كريمة احترمه لأجلها الناسُ ووقّروه. ثم كان مع ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزَّة النفس. ومن كانت هذه حاله يشتدّ عليه غاية الشدة أن يؤذَى، ويشقّ عليه غاية المشقة الإقدامُ على ما يعرِّضه لأن يؤذَى. ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر منه، وهذا يسبُّه،
(١) برقم (٢٤٠٠). وأخرجه أيضًا الدارمي (٢/ ٣٢٠) وابن ماجه (٤٠٢٣). وصححه ابن حبان (٢٩٠١) والحاكم (١/ ٤١).