أقول: الذي يظهر من كلام القادحين وما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة، ولا أنه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر. وإنما زعموا أنه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعد والغموض والاشتباه والإشكال، فلذلك لا تُعْلَم صحةُ النظر علمًا يوثَقُ به، فلا تُعْلَم صحة النتيجة، فلا يفيد علمًا. وعلى هذا، فلهم أن يقولوا: التصوُّر بعارض يكون هو مناطَ الحكم محلُّ غموضٍ واشتباه شديد، لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض وما يترتب عليها. والعُسْرُ وشدةُ إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهوية، وكونُه في الإلهيات أشدَّ وأشدَّ= كافٍ في القدح، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم، وقد تقدم مرارًا أن الجزم كثيرًا ما يكون خطأً وغلطًا. إذا كان قد يقع ذلك في الحِسّيات ونحوها، فما الظن بما هو من البُعْد والإشكال بالدرجة القصوى؟
هذا، ويردُّ على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا، كالعلم بوجود الخالق عز وجل، وبأنه حيٌّ عليم قدير حكيم. لكن لهم أن يقولوا: أما ما كان من هذا القبيل، فهو من الضروريات، كعلم الإنسان بوجود هويَّته وبعض صفاتها، أو أوضح من ذلك. وإنما دخل التشكك من جهة النظر المتعمَّق فيه، وتجاهل وهنِه، حتى جرَّ أصحابه إلى إنكار الضروريات، كما وقع للسوفسطائيين وغيرهم.
[٢/ ٢٢٥] أقول: فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمَّق فيه. فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لإثبات جلائل الأمور التي أعدَّه الخالق عز وجل لإدراكها. وبذلك يثبت الشرع يقينًا، فيسلِّمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل والخطأ والكذب والتلبيس والتقصير في البيان.