للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال الله تبارك وتعالى لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: ٣٣]. يعني ــ والله أعلم ــ: لا ينسبونك إلى تعمُّد الكذب. وهذا بيِّن واضح من كلماتهم، كقولهم: "مجنون" أي لا يعقل ما يقول، "كاهن" أي تُلقي إليه الشياطين ما تُلقي فيحسبُه من عند الله. فأما قولهم: "شاعر" فقصدوا به توجيه بلاغة القرآن. وأما قولهم: "ساحر" فقصدوا به توجيه المعجزات، ومنها بلاغةُ القرآن وعجزُهم عن معارضته.

فإن كان في كلماتهم ما فيه ذكرُ تعمُّدِ الكذب، فذاك من باب اللجاج الذي يعرف قائلُه قبلَ غيره أنه لا يخفى بطلانه على أحد. وإنما اعتنى القرآن بحكاية ذلك وإبطاله إبلاغًا في إقامة الحجة، وليبيِّن للناس أنه لا شبهة لهم إلا مثل ذلك اللجاج. وهذا مثل ما قصَّه الله عز وجل من قول بعض اليهود (١):


(١) علَّق عليه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة بقوله: "هذا قول بعض المفسرين مستدلًّا على ذلك برد الله عليه بإنزال التوراة التي يعترفون بها. ولكن السياق والأسلوب يدل على أن ذلك من قريش، ورد الله عليهم بإنزال التوراة من باب الإفحام بما لا يمكن رده، فشهرة التوراة وأنها كتاب الله مما لم يجحده قريش، فالحجة قائمة على جاحد الوحي من قريش بشهرة التوارة وأنها كتاب الله، واعتراف جمهور الناس بذلك من يهود ونصارى وعرب وعجم. أفاده المحقق ابن القيم في بعض كتبه".

فتعقبَّه المؤلف بقوله: "جمهور المفسرين على أن القائلين بعض اليهود، وهو المنقول عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، وسيأتي في تفسير (قل هو الله أحد) رأي الشيخ في روايته، وعن عكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والسدي وغيرهم، ويعينه أو يكاد قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} هكذا قرأها جمهور القراء، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الالتفات. وأما القول بأن القائلين من قريش، فنقل عن مجاهد واختاره ابن جرير وقال: "والأصوب من القراءة في قوله {يجعلونه قَرَاطِيسَ يبدونها ويُخفون كَثِيرًا} أن يكون بالياء لا بالتاء" كذا قال، واستبعاد أن يقول بعض اليهود ذاك القول ليس في محله؛ لأن اليهود بهت، وقد قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} قاتلهم الله أنى يؤفكون، وأما السياق والأسلوب فلا يقاوم دلالة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. على أنه لا مانع من الجمع بين الوجهين، القائل من اليهود، وقريش توافقه على ذاك القول. والله أعلم".