الأحكام يجوز فيها أن تنقل القرينة آحادًا فقط؛ لأن الخطأ في ذلك أمر هيِّن. وقد يكون الخطأ بالنظر إلى النصوص في الأحكام صوابًا بالنظر إلى الحكمة، فإن القوانين الشرعية تبنى على الأغلب في الحكمة، ولكن الله تبارك وتعالى يتولى تطبيق الحكمة بقضائه وقدره. فكما فرض الله تعالى الحكمَ بشهادة العدلين، وقد يتفق أن يخطئ عدلان، لكن الله تبارك وتعالى يتولَّى في مثل هذا تطبيق الحكمة بقضائه وبقدره؛ فكذلك قد يعرف القاضي دليلًا عامًّا فيقضي به، وهناك مخصِّص له لم يقف عليه، فهذا القضاء وإن كان خطأً بالنظر إلى نفس الأمر بحسب الدلائل، فلعله صواب عند الله عز وجل بمقتضى الحكمة في تلك القضية. فأما العقائد فعلى خلاف هذا، إذ لا يُعقَل تغيُّر الحكمة فيها، وكما يضرُّ فيها القطعُ بالباطل فقريب منه الظن. فهَبْ أن العالم إذا بحث فلم يجد قرينة لم يقطع بظاهر النص، فلا بد أن يظنه، ولا يستطيع أن يدفع الظن عن نفسه، ومع الظن فلا بد أن يَحمد من أصحاب المقالات من يوافق ذاك الظن، ويذم من خالفه لغير حجة صحيحة.
وبالجملة فمَن تدبَّر القرآن والسنة وآثار السلف لم يخفَ عليه الحقُّ في كثير منها، وأنه [٢/ ٣٢٩] لا يمنعه عن القطع والاستيقان ــ إن منعه ــ إلا الشبهات المحدَثة المبنية على التعمق. فأما من يقوى إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها. وأما من لا إيمان له، وهو مفتون بالشبهات، فإنه [لا] يقطع بتلك الدلالة، ويكفر بها.
وأما الذين يكونون كما قال الله عز وجل:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}[النساء: ١٤٣] فقد عرفتَ حالَهم. ووراء ذلك أقوام يجهلون ما عليه العقولُ الفطريةُ كعقول المخاطبين الأولين أو يتجاهلون!