الكلمات إلى بعضها فيقع التناسب والتجانس، ويتحدد في هذا الإطار موقع اللفظة من حيث دورها في التعبير عن المراد، والكلمة ينظر إليها من زاويتين:
الأولى: نظرة في حال إفرادها، ونظرة أخرى في حال نظمها مع غيرها، ولا بد من تحديد مفهوم الكلمة بذاتها من حيث وضعها عند أهل اللغة، ومفهومها في إطار موقعها في الجملة من حيث موقعها الإعرابي، ومفهومها حين تأخذ مكانا خاصا في الكلام، من حيث المعنى المستفاد منها ...
والكلمة لا يمكن أن تفهم إلا في إطار موقعها العام في الكلام، والوظيفة التي تؤديها، فقد تفهم المعاني، وتتحد المفردات، ثم يقع التباين في مدى الفصاحة والبيان والإفهام والتأثير، وهنا نكتشف عظمة الدور الذي يؤديه اختيار الكلمة وموقعها، وهنا تبرز الفصاحة ..
وهذا يؤكد اهتمام القاضي عبد الجبار بالنظم، والنظم كما أورده كالثياب المنسوجة تتفاضل بمواقع الغزل وكيفية تأليفه وتنسيقه، مع أن الغزل في حقيقته لا يتغير، والكلام يتفاضل أثره ويتباين معناه بحسب قوة المتكلم، وقدرته على اختيار مواقع الكلام من حيث التقديم والتأخير، وهذا يحتاج إلى قدرة ذاتية تعطي صاحبها فصاحة وقوة بيان، ولا يتم ذلك إلا بتأييد من الله وإلطاف ورعاية وتوفيق.
وهذا المنهج يقودنا إلى إقرار فكرة الإعجاز القرآني، من خلال توافق اللفظ والمعنى، وتكاملهما في أداء الدور المطلوب فيهما، فالتأليف هو الدور الأهم في فن الفصاحة، بحيث تكون اللفظة دالة على المعنى المراد، وتقع في الموقع المناسب لها، ولهذا عند ما يقع التحدي بالكلام فلا بد من أن يكون تأليف هذا الكلام في أعلى درجات الترتيب والتنسيق وحسن التركيب بحيث يكون الكل في موقعه المناسب، من حيث اختيار الكلمة، واختيار موقعها في الجملة، لكي يؤدي هذا التركيب المحكم الغاية المطلوبة. ولهذا يتفاضل الفصيح من الكلام بتفاضل الكتّاب، مع أن الألفاظ واحدة، فالأقدر على التأليف هو الأفصح، ولا نهاية للفصاحة، ويقع الإعجاز فيما وقع التحدي به والعجز عن الإتيان بمثله.