فدثروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ.
وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا الحديث بنفي التعارض بين القولين، وأكدوا بأن صدر سورة «اقرأ» هي أول ما نزل، وإن سورة المدثر هي أول سورة نزلت كاملة، وفيها تكليف ببدء الدعوة، ونزلت بعد آيات القراءة، والقراءة أولا، والتكليف ثانيا، والأولوية ليست أولية مطلقة، فهناك الوحي وهناك بدء الرسالة والتكليف، وقال ابن حجر: إن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو التدثر الناشئ عن الرعب، بخلاف اقرأ فنزلت ابتداء ... وقال الكرماني: قال جابر بن عبد الله ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة، ومع هذا فلا يمكن أن يجهل «جابر» أولوية سورة «اقرأ»، والأمر ليس اجتهادا، وإنما هو نقل ورواية، وهي بيان عن نزول سورة المدثر، وهي واضحة في الدلالة على أنها من أول ما نزل من آيات التكليف والدعوة ولا تعارض أولوية سورة «اقرأ» كبدء للوحي، ويؤكد هذا لفظة «فإذا هو» في حديث جابر، وكأن الرسول سبق أن رآه عند ما نزل عليه يأمره بالقراءة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
القول الثالث: أول ما نزل من القرآن «سورة الفاتحة» واستدل من قال بهذا القول بما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:
«إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت:
اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقصا عليه، فقال: لا تفعل إذا أتاك، فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه، يا محمد قال:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ وهو مرسل رجاله ثقات.
قال البيهقي: إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر.