للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من بلاد بعيدة، يُظْهِرُ (١) لهم الخشونةَ في دينه والمبالغةَ في الاحتياط، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهِمُهم قلَّةَ دينِهِم وعِلْمِهم، وكلَّما شدَّد عليهم قالوا: هذا هو العالم. فأعلمُهم أعظمُهم تشديدًا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل (٢) من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذبَّاح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالِمٌ غريب قَدِم علينا. فلا يزال ينكرُ عليهم الحلال ويشدِّدُ عليهم الآصار والأغلال ويفتحُ لهم أبواب المكر والاحتيال. وكلما فعل هذا قالوا: هذا هو العالم الربَّاني والحخيم الفاضل.

فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقُبِل بينهم مقالُه وَزَنَ نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به وطعن عليه: لم يقبل منه، فإنَّ الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدَّد عليهم وضيَّق، وكلَّما كان الرجل أعظم تضييقًا وتشديدًا كان أفْقَه (٣) عندهم، فينصرف عن هذا الرأي فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظَّم الله ثواب فلان؛ إذْ قوَّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشيَّد أساسه وأحكم سياج الشرع. فيبلغ القادِمَ قولُه فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: لقد زيَّن الله بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!!

وإن كان القادم عليهم حَبْرًا من أحبارهم؛ فهناك ترى العجب


(١) في "ب": "وظهر".
(٢) في "ب": زيادة "ولا يشرب" في الحاشية.
(٣) في "غ، ص": "أفقد".

<<  <  ج: ص:  >  >>