وهنا يعلمنا القرآن الكريم: أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل، قد جاء مصدقًا ومؤكدًا لما قبله، فالإنجيل مصدِّق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدِّق ومؤيد للإنجيل والتوراة، ولكل ما بين يديه من الكتاب. إذ هناك تشريعات خالدة لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأصقاع والأوضاع. وهناك تشريعات أخرى جاءت موقوتة بآجالٍ طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها، وتجئ الشريعة التالية بما هو أوفق وأرفق بالأوضاع الناشئة الطارئة. وقد جاء القرآن الكريمِ فغيّر الله تعالى فيه بعض الأحكام التي جاءت في التوراة والإنجيل، وقوفًا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدّر لها في علم الله ﷾، وما كان فيها من الأحكام صحيحًا موافقًا لقواعد السياسة الدينية لا يغيّره، بل يدعو إليه ويحث عليه. وما كان سقيمًا قد دخله التحريف فإنه يغيره بقدر الحاجة، وما كان حريًا أن يزاد فإنه يزيده على ما كان في الشرائع السابقة (١).
وعلى هذا، فإن الإسلام قد اعترف بالشرائع السابقة كما نزلت على الرسل السابقين، على أنها شرائع، وديانات توحيد في الذات والصفات والألوهية، فالله ﷾ واحد أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المتفرد بالعبادة، وهو الخالق لكل شيء، العليم بكل شيء، السميع البصير اللطيف الخبير، الموصوف بكل صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقص.
فالنصرانية التي اعترف بها القرآن الكريم هي التي تعتبر المسيح ﵇ عبدًا لله ورسولًا من عنده، ليس إلهًا ولا ابن إله، وهي التي يقول
(١) "حجة الله البالغة" للدهلوي (١/ ٩٠ - ٩١، و ١٢٢ - ١٣٣).